إنكلترا والوعي السياسي المتأخر؟

كتب د. عبدالرحمن الجيران في صحيفة الراي.
كأنّ انكلترا شعرت أخيراً بوخز الضمير بعدما فعلت فعلها في إهداء فلسطين لليهود (وعد بلفور 1917م رغم أن هذا الوعد تضمّن حماية حقوق المدنيين الفلسطينيين إلا أن التاج الملكي لم يقرأه إلّا أخيراً!) فعدلت المسار لجهة الاعتراف بدولة فلسطين واعترفت بحقوقهم المدنية!
هذا الوعي السياسي المتأخر، ونعني به الوعي الاجتماعي والإنساني أو المدني، يعتبر درجات بين أرقى الأمم المتحضرة، ويتوقف الارتقاء في سلم هذه الدرجات على نصيب الفرد في المشاركة الفعلية في حكم بلاده وتقرير مصيره، وبالتالي نقله إلى خارج بريطانيا حتى تتفق مصلحته ومصلحة اتفاق السلام وتصبح أمانة الحكم حاسة فيه ينساق بها إلى المصلحة العامة بغير سائق من نصوص الدستور أو رهبة من سلطة احتلال.
ولسنا نعتقد أن شعباً من الشعوب قد بلغ في هذه الحاسة درجة أرفع من درجات الأمة الإنكليزية، وآية ذلك أن لا قانوناً هناك ولا دستوراً في البرلمان، إلا وهو مستمد من الأعراف العريقة والتضامن بين عناصر مكونات الرأي العام قبل استمداده من النصوص والمدارس القانونية!
ولم يكن الانكليز كذلك – خصوصاً بعد العصور الوسطى – لأنهم جيل من البشر أرفع من سائر الأجيال، وانما كانوا كذلك لظروف جغرافية وتاريخية هيأت لهم وسائل المشاركة الفعلية في الحكومة – بعد ثورة مارتن لوثر سنة 1517 ميلادي – ولم يتهيأ لغيرهم من شعوب أوروبا، ومنها على سبيل المثال، أن الملك في إنكلترا لم يكن بحاجة إلى جيش جاهز ينفق عليه ويستبقيه مستعداً عند سماع طبول الحرب، فقد أغناه عن هذه الحراسة أن البحر يحيط به من كل جانب!
فاكتفى بجيش نظامي قليل في لندن للمراسم الملكية إلى جانب جيش نظامي أقل منه عند كل نبيل من نبلاء الأقاليم… ومن هذه الظروف أيضاً أصبحت التجارة ضرورة من ضروريات الحياة في تلك الجزيرة البريطانية، فنشأت الموانئ في الشمال والجنوب والوسط، واحتوت المدن التجارية إلى جانب المقاطعات الريفية، وعزّ على النبيل من أجل هذا أن يستبد بالتاجر في مصالحه وعلى التاجر أن يستبد بالنبيل أيضاً.
وبالنسبة لطبقة العمال وهم الأكثر عدداً فقد اعتمدوا على المعاملات التجارية الخارجية لأنهم لم يكتفوا بمحصول الجزيرة من المزارع أو المصنوعات، وبهذه الظروف تم التوازن بين مكونات المجتمع وتهيأت لكل طائفة من أسباب المشاركة الفعلية في سياسة المجتمع العامة، وشعر كل فرد بأنه مسؤول ومحاسب عن عمله، فأصبح الوعي السياسي بمعناه المدني والاجتماعي عادة في النفس وسجيّة تجري مجرى الغريزة الفطرية في الثقافة الإنكليزية.
ونحن أبناء السليقة العربية، نغلو في الطمع إذا اشتركنا في حكوماتنا، ورجونا أن تتحقق لنا اليوم تجربة لم تتحقق لغيرنا في أقل من مئات السنين. لكننا لا نبتعد كثيراً في الطمع، إذا قلنا أننا لن نحتاج إلى كل تلك السنين لنستفيد في الوعي السياسي من تجاربنا وتجارب غيرنا، بل اننا نثوب إلى الأحزاب التي تأصلت فينا، فتسعفنا بمدد منها! كلما نازعتنا مآرب الوطن والسيادة، فأوشكت أن تذهلنا عن مصالح (المرشد العام) أو (مرشد الثورة)!
فهل من مدّكر؟




