رأي

إعادة تشكيل المنطقة العربية

كتب غازي العريضي في صحيفة العربي الجديد.

أجرت صحيفة إندبندنت عربية حواراً مع الأب الروحي (والفكري) لفكرة “ريفييرا غزّة”، جوزيف بيلزمان، قال فيه: “بعد الحرب يُشرع في إعادة إعمار غزّة بكلفة تقديرية تتراوح بين تريليون دولار وتريليونين لجذب استثمارات أجنبية، ولتشغيل القطاع وإدارته مدّة 50 عاماً بعقد إيجار طويل الأمد”. عقد إيجار مع مَن؟ هل الأرض سائبة! أليس لها أصحاب ويقيم فيها سكّان أصليون؟ أهي عملية تملّك باستباحة بعد قتل من كان عليها وتهجير الناجين من المذبحة! أهذا هو المستقبل الموعود!
تابَع قائلاً: “تبنى مؤسّسات مدنية وقانونية، ثمّ ينتقل الحكم إلى السكّان بعد استكمال الفترة وبناء سياسات حكم رشيد تعتمد على سيادة القانون والنظام الاقتصادي الحر”. عن أيّ قانون يدور الحديث والعملية في أساسها قائمة على تجاوز القوانين باستثمار أراضي الآخرين من جهات خارجية، من دون اعتراف بهم؟ وأين سيكون السكّان؟

مشروع “الشرق الأوسط الجديد” هو إسقاط تاريخ فلسطين، وشطب الذاكرة والسيطرة على الأرض والتصرّف بها

الجواب: “قطر بلد صغير لا يتجاوز عدد سكّانه 350 ألفاً. باقي السكّان، وافدون، عاملون. لديها فنادق ضخمة يمكن استخدامها لإيواء الفلسطينيين. فالدعم الحقيقي يكون بالاهتمام بالناس وليس بالشعارات”. غمز من قناة قطر، وبدا جاهلا بها، والمدة كما حُدِّدت 50 عاماً. تهجير واقتلاع من الأرض إلى قطر وغيرها، والمؤقت دائم لإنجاز مشروع السيطرة على غزّة وكامل فلسطين. العملية هنا واضحة تحت عنوان تشكيل “الشرق الأوسط الجديد”، يبدأ بإعادة تشكيل المجتمعات العربية والهُويَّات، وهذا أخطر ما فيه. ماذا عن التمويل وعن حقّ تقرير المصير اللذين أُشير إليهما بطريقة ملتبسة في خطّة ترامب؟
الجواب: مؤجّل إلى ما بين 50 – 100 عام، حتى تحقيق الاستقرار. دول عربية وإقليمية “معتدلة” ستموّل، وقوى اقتصادية دولية تعمل بنظام الامتياز الذي يتيح للمستثمرين حصص ملكية مؤقّتة 50 عاماً. دول “أبراهام” شركاء محتملون. شركات عالمية ذات نظام خاص تركّز في الطاقة والبنى التحتية والتكنولوجيا والسياحة، وبنك دولي، وصناديق الثروة السيادية الخليجية، وإعادة تأهيل فكري واجتماعي… والهدف: “نزع التطرّف” و”نزع النازية”. هنا بيت القصيد ومكمن الخطر. المشروع ينطلق من أن ثمّة “نازية” في العالم العربي، وتحديداً في فلسطين، ينبغي نزعها في وقت اتهم إسرائيليون في الداخل الإسرائيلي وفي الخارج، وقطاعات دولية كبيرة، الدولة الصهيونية بارتكاب الإبادة وممارسة نازية حقيقية. المشروع هنا استعماري، استيطاني. يعترف بيلزمان بشيء من ذلك عندما يقول: “نعم، يمكن القول إن المشروع يحمل طابعاً استعمارياً، لكنّ نزع التطرّف من عقول الأطفال سيستغرق 50 عاماً. الهدف إعادة بناء الإنسان من صفر”. إنها عملية إعادة تشكيل العقول بعد غسلها بمواد سامّة على مدى عقود من الزمن ولإحكام السيطرة في العقود المقبلة. إنها عملية إسقاط تاريخ فلسطين وانتمائها ومقدّساتها المسيحية والإسلامية، وشطب الذاكرة والسيطرة على الأرض والتصرّف بها، وبناء أجيال جديدة تحمل أفكاراً جديدة، وذلك كلّه بتمويل عربي وشراكة عربية “إبراهيمية”. إنها عملية إعادة تشكيل العقل العربي.

ما يُطرح اليوم ليس إعادة إعمار غزّة، وإنما إعادة تشكيل العقل العرب

نحن بحاجة إلى هذا الهدف بقرار عربي. بحاجة إلى خوض معركة الذاكرة والتاريخ والوعي والانتماء، ولدينا الوسائل والإمكانات كلّها، إذا أحسنّا استخدامها في مجالات التربية والعلوم والثقافة والإعلام وبناء مجتمعاتنا، عكس ما يطرح اليوم، ويعود أساسه إلى ما قاله شيمون بيريس بعد إطلاق مسار مدريد في العام 1991: “إنّنا نملك العقول والخطط والمشاريع والتكنولوجيا، والعرب يملكون المال والأيدي العاملة”. وقلت يومها (وأكرّر): “إنه مشروع السخرة الجديد”، إذ تتعامل إسرائيل وفق القاعدة: نحن نخطّط بعقولنا ونضع المشاريع، وأنتم تنفّذون بأموالكم وأياديكم العاملة، وتعملون فعلياً عندنا لتحقيق مشاريعنا. وقد غرق عرب كثيرون في هذه الخطّة الجهنمية حتى الآن والحبل على الجرّار.
“في كل هذه الأطروحة لا مكان لحلّ الدولتَين أو فكرة إقامة دولة فلسطينية بالتأكيد، بل دعوة إلى فصل الدين عن الدولة في الدول التي نتجتْ من إعادة التشكيل، وبعد قيام مجتمع مدني، لتكون إدارة الدولة مدنية لا دينية”. هل يعي حكام اليوم معنى هذا الأمر، وهم الذين هاجمونا على مدى عقود من الزمن من خلال أنظمتهم لأننا انحزنا (بقيادة كمال جنبلاط) إلى مشروع الدولة الديمقراطية المدنية العادلة، إلى العلمنة ودولة الحريات والعدالة الاجتماعية، قبل أن تصل إسرائيل إلى ما هي عليه، وتفاخر الآن بأنها تعيد تشكيل المنطقة كلّها في قياسها ووفق مصالحها، وهي دولة عنصرية تحكمها العقيدة الدينية؟
الخطر الأكبر اليوم أن أصحاب المشروع، وتحت عنوان “نزع التطرّف”، يعلنون بوضوح أهدافه كلّها، ويحاولون فرضه بالإبادة والقتل والتهجير والترهيب، ويراهنون على التمويل العربي والشراكة العربية معهم بمنطق المال والاستثمار، ولن يبقى مال في مثل هذه الحال لدى العرب. ولن يكون أمن ولا سلام ولا ازدهار ولا استقرار.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى