إسلاميو تونس ينشدون الاعتراف

كتب سالم لبيض, في العربي الجديد:
بثّ تلفاز الزيتونة (قناة محسوبة على حركة النهضة الإسلامية التونسية) نهاية الشهر الماضي (مايو/ أيار)، في برنامجه الأسبوعي “لقاء خاص”، حواراً مع أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، والشخصية الأكاديمية اليسارية ذات المرجعية الماركسية مولدي قسّومي. خلُص اللقاء إلى ما عُدّ “اعترافاً” يسارياً بالإسلام السياسي (وبحركة النهضة)، وقبولاً بالحوار مع من يمثّله إذا ما دعته جبهة الخلاص الوطني المُعارِضة، ذات اللون الإسلامي الغالب، إلى منابرها، وهذا نادر في علاقة اليساريين بالإسلاميين، فالقطيعة الجذرية، والعداء، وتبادل تهمتَي الإرهاب والاستئصال هو الثابت في تلك العلاقة، ما جعل من موقف قسّومي يلقى تجاوباً واسعاً، وحمداً وثناءً من رموز مؤثّرة، ومن طيفٍ واسعٍ من الإسلاميين وصفحاتهم ومنابرهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وتمجيداً من أقلام إسلامية معروفة، بعد أن تبارت تلك المنابر في وصم الرجل ونعته بأبشع النعوت، لمشاركته بمعيّة شخصيات يسارية وغير يسارية (ناجي جلّول وأمين محفوظ وعبد الله العبيدي)، قبل أسبوع من لقائه التلفزيوني، في ندوة سياسية نظّمها الحزب الدستوري الحرّ، الموصوفة رئيسته عبير موسى (من الإسلاميين) بـ”الفاشية”، حول الواقع السياسي، وتقديم مبادرة سياسية للأحزاب المؤمنة بالدولة المدنية، تُستثنى منها حركة النهضة والأحزاب ذات الخلفية الإسلامية.
طاول ثناء الإسلاميين التونسيين (قبل ذلك) شخصياتٍ أخرى أكاديمية ومدنية، لا تُخفي توجّهاتها العلمانية واليسارية، دعت إلى التعايش، ولم تعد ترى في العشرية (2011 – 2021) مرحلة سواد قاتم في تاريخ تونس المعاصر، بل عشريةً للديمقراطية التونسية على هناتها، ونافحت عن الحريات السياسية، وطالبت بإطلاق سراح جميع مساجين الرأي والسياسة، ولم تستثنِ قياداتِ حركة النهضة وأطرها، القابعين في السجون التونسية، على غرار رئيس الحركة راشد الغنّوشي، ونائبيه علي العريض ونور الدين البحيري، وأمينها العام العجمي الوريمي. ومن هؤلاء، أستاذة الحضارة العربية بكلّية الآداب في منوبة، والمديرة العامّة السابقة لدار الكتب الوطنية، ذات النفَس العلماني، رجاء بن سلامة، التي دوّنت مطلع مايو الفائت: “أتحدّث هنا كمدافعة عن العلمانية، ومنذ سنواتي الصغيرة، ظللت أدعو إلى فصل واضح بين الدين والشريعة، الدين والسياسة، الدين والمعرفة. على غرار العديد من معاصريَّ، عرفت اتهام الرِدّة (التكفير)، والتهديدات الإرهابية، وكان أكثر معارضيَّ ثباتاً في المجال العام الإسلاميون. لكنّهم منافسون، ليسوا أعداءً. وهذا هو بالضبط السبب في أنني أرفض أن أصبّ الكراهية عليهم، خاصّة اليوم، بينما يمرّ بلدنا بمحنة جماعية كبرى”. وأضافت: “يمكنني القول إن الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، لو كان قريباً، كان يستحقّ الوجود في إطار النقاش والحوار والتعبئة السلمية وصناديق الاقتراع. لقد كانت ديناميكيةً حيويةً، في بعض الأحيان قاسيةً، لكنّها ليست مدمّرةً. يكمن الخطر في تحوّلها إلى كسر فجوة تحمل الضغائن والإقصاء والدوافع الانتقامية”.
أعادت تجربة الحكم إسلاميي تونس إلى مرحلة البحث من جديد عن الشرعية والاعتراف
في السياق، وفي الفترة نفسها تقريباً، كتب مسعود الرمضاني (ناشط مدني يساري) نصّاً نشره في “فيسبوك”، يحمل عنوان “أوهام (إعادة) بناء (الجبهة التقدّمية)”، قال فيه: “كثير من (التقدّميين) كانوا مع وأد التجربة الديمقراطية وانخرطوا في تشويهها والانقلاب عليها، باسم (التقدمية)، وأنا في تفكيري المتواضع لا توجد تقدّمية من دون وجود الديمقراطية والصراع السياسي السلمي والحفاظ على المؤسّسات وحمايتها، واحترام الخصم السياسي، وهو في الحقيقة ليس عدوّاً، لأنه لا أحد فينا من يمتلك الحقيقة، حتى مع وهم الطهورية الأيديولوجية، لا أحد منا له ملكية البلاد”. وفي معرض إجابته على أسئلة لاحقة طرحها في مقاله “هل بدأت مرحلة المراجعات السياسية للمعارضة التونسية؟ يبدو أن الأمر كذلك”، المنشور في صحيفة المغرب (2/6/2025)، ومنها “هل حان الوقت للتخليّ عن السلوك الإقصائي الذي ساد بين مختلف التيّارات السياسية؟” و”هل كانت خطابات التخوين والكراهية والوصم المتبادل هي التي عبّدت الطريق إلى غلق قوس الديمقراطية؟”… لم يكتفِ الرمضاني بالاعتراف بالخصوم السياسيين (الإسلاميين)، ولا بالدعوة إلى احترامهم، وإنما ذهب بعيداً عند اتهامه رفاقه في “التقدّمية” (اليسار) بعدم الإيمان بالديمقراطية، إلا أن تكون في مقاسهم، فتحقّق لهم ما يريدونه، فـ”كثير من التقدّميين المناهضين لهذا المسار (25 يوليو) وضدّ الوضع الحالي، لا تعنيهم الديمقراطية، إلا عندما يكونون محورها وقلب الرحى فيها”. في مقابل ثناء الإسلاميين على علمانيين ويساريين، خصّهم صلاح الدين الجورشي بمقال في “العربي الجديد” (11/5/2025)، يحمل عنوان “علمانيون في تونس ضدّ كراهية الإسلاميين”، لما أبدوه من اعتراف بالحركة الإسلامية (النهضة) والدعوة إلى الصراع السياسي الديمقراطي معها، بدلاً من منزع الإقصاء والاستئصال المحكوم بخلفيات أيديولوجية غريبة عن العملية الديمقراطية، صبّ الإسلاميون جام غضبهم على الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، متَّهمين إيّاها بأنها رابطة حقوق اليساريين فقط. وهذا الموقف يستمدّه أصحابه من عدم إدراج الرابطة، في أنشطتها الحقوقية، الدفاع عن المساجين الإسلاميين، وعدم تشريك من يمثّل حركة النهضة في الجلسة التحضيرية لـ”المؤتمر الوطني للحقوق والحريات ومن أجل جمهورية ديمقراطية عادلة”، الذي تُعدّ المنظمة الحقوقية التونسية، مع أغلب القوى السياسية والحزبية والمدنية المشتغلة في الحقل العام، لعقده في الأيّام المقبلة.
حاول القيادي النهضاوي، البرلماني السابق، والباحث في الفلسفة بمركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس، محسن السوداني، التخفيف من وطأة موقف الرابطة على الإسلاميين، وعدم الاعتراف بهم، والدفاع عنهم بصوت عالٍ، كما تفعل الرابطة مع بقية مساجين الرأي والفكر والإعلام والتدوين والسياسة من غير الإسلاميين، معلّقاً في تدوينة له بعنوان “النهضة ومنظّمات المجتمع المدني”، نشرتها صفحته في “فيسبوك” (24/5/2025)، معلّقاً على “المستجدّات التي طرأت أخيراً داخل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان” بالقول: “بالنسبة إلى موقف الرابطة ممّا تتعرّض له حركة النهضة من استهداف، الذي يمثّل أحد المآخذ على المنظمة باعتبارها لم تدافع عن المساجين الإسلاميين، حركة النهضة ترحّب بكلّ موقف يساندها في محنتها ويدافع عنها. وترى فيه نبلاً سياسياً ورفعةً أخلاقيةً، وفي الوقت نفسه، فإنّ حركة النهضة لا تستجدي التعاطف والدعم ولا تجدّ في طلبه من أحد”.
قال الغنوشي: “أحسب أن الإسلاميين وغيرهم من القوى السياسية المرشّحة لقيادة هذا الربيع العربي مطلوب منها أن تتعلّم فنّ التعايش”
اعتقد رئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي، عند نشر كتابه “الحريات العامّة في الدولة الإسلامية” (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1993) بشكل واسع، وقد تضمّن خلاصة أفكاره وتجربته السياسية، أن ذلك الكتاب هو جواز عبوره إلى المجتمعَين المدني والسياسي التونسيين. جاء في ذلك المؤلَّف (ص 273-274) “واللافت للنظر أن صنوف القمع التي تعرّض لها التيار الإسلامي ممثلاً بالجماعة الإسلامية، ثم بالاتجاه الإسلامي، ثم النهضة وهو التيار الرئيسي، لم يدفعه إلى الراديكالية، بل العكس هو الذي حصل، إذ بلورت المحن وأصّلت خطاباً فكرياً وسياسياً إسلامياً يؤكّد على ضرورة وأهمية الدخول بالإسلام إلى العصر وعالم الحداثة بما هي حرية مطلقة للعقل، وتأكيد على حقوق الإنسان وحرّياته، وعلى النموذج الديمقراطي في الحكم بما هو تعددية سياسية لا تستثني أي مكونٍ من مكونات المجتمع، وتداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع”. وفي 2012، لمّا كانت حركة النهضة في أوّل عهدها بالحكم، خطب الغنّوشي، في ندوة انتظمت في عمّان، ونُشرت في كتاب جماعي بعنوان “الإسلاميون وتحديات الحكم في أعقاب الثورات العربية”، بمشاركة رموز من التيّار الإسلامي في الوطن العربي، مبلوراً ما توصّل إليه من فِكَر سياسية اختار لها فيما بعد تسمية “الإسلام الديمقراطي”، قائلاً: “وأحسب أن الإسلاميين وغيرهم من القوى السياسية المرشّحة لقيادة هذا الربيع العربي مطلوب منها أن تتعلّم فنّ التعايش، وأن تقبل مبدأ المواطنة أساساً للدولة، وتوزيع الحقوق والواجبات على أساس المساواة في المواطنة، وأن تقبل النظام الديمقراطي بكلّ آلياته من دون إقصاء لأي فكرة أو لأي طرف، والقبول بحكم صناديق الاقتراع، فالتعددية لن تقصي أحداً، وقبول حقوق الأقليات”.
لم يكن رئيس حركة النهضة يعلم آنذاك، وبسبب انعدام تجربة الحكم لديه، أن عشر سنوات من ممارسة السلطة (كلّياً أو جزئياً) ستكون نتيجتها ضياع جهد نصف قرن من العمل السياسي لانتزاع اعتراف الدولة والقوى السياسية والمدنية بالحركة الإسلامية، وبمكوّنها الرئيس حزب حركة النهضة، وأنه سيجد نفسه من جديد، رغم مراجعات المؤتمر العاشر وفصل الدعوي عن السياسي، في السجون والزنازين نفسها، التي كتب فيها مخطوط كتابه “الحريات العامّة في الدولة الإسلامية”. فقد أعادت تجربة الهيمنة على السلطة التشريعية ورئاسة الحكومات التونسية، أو المشاركة فيها (2011-2021)، إسلاميي تونس إلى مرحلة البحث من جديد عن الشرعية والاعتراف، من أحزاب سياسية وقوى مدنية يرفض أغلب مكوّناتها التعامل أو الالتقاء معهم في أبسط المهمّات، رغم الانتماء المشترك إلى المعارضة، ومن سلطة أقصتهم من الحكم يوم 25 يوليو/ تمّوز 2021، وأغلقت مقرّات حزبهم، وزجّت بقياداته في السجون، وأرهقتهم بالمحاكمات بتهم التآمر على الدولة والإرهاب، حتى بلغ الأمر ببعض الإسلاميين، من داخل “النهضة” ومن خارجها، حدّ الدعوة إلى حلّ الحزب طوعيّاً، تحسّباً وخشيةً لما هو أكثر وجعاً من عدم الاعتراف بهم، والمتمثّل في تصنيف السلطات التونسية (بتأثير من قوى إقليمية عربية نافذة وأخرى دولية) حركتهم تنظيماً إرهابياً، والعودة بهم إلى ما عاشوه من مآسٍ في فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ولكن بعد تجريدهم من التعاطف الشعبي لتلك الفترة.