كتب خالد اليماني في إندبندنت عربية.
النقاشات التي تجري في واشنطن حول الشرق الأوسط تؤكد أن الرئيس جو بايدن في ورطة كبيرة، نظراً إلى الأزمات الدولية المتعددة والمركبة التي تواجهها إدارته خلال العام الانتخابي، والتي تحتاج إلى معجزة لتفكيكها، وقد تكون إدارة الحرب في غزة والوضع العام في إسرائيل أكبر تلك الورطات التي تواجه الرجل، وهو عاجز عن إحداث أي تغيير باتجاه تفكيكها.
كل ذلك مع وجود حكومة يمينية متطرفة في تل أبيب كل ما تريده من أميركا هو استمرار الدعم العسكري المطلق وغير المشروط لعملياتها في غزة، ولا تريد انتقاد واشنطن لجرائم الإبادة والتدمير التي تمارسها بحق الفلسطينيين، ولا أي حديث تطرحه الولايات المتحدة عن حل الدولتين.
وجاءت مصادقة الكنيست الإسرائيلي الأسبوع الماضي على قرار حكومة بنيامين نتنياهو بمعارضة أي اعتراف دولي بدولة فلسطينية مستقلة بغالبية 99 من أصل 120 عضواً في الكنيست، لتعكس إجماعاً بين كل الأحزاب والأطياف السياسية الإسرائيلية، وتؤكد بأنه لم يعد من وجود لما كان يعرف بمعسكر السلام في تل أبيب.
تحرك الحكومة الإسرائيلية العاجل جاء رداً على إطلاق بايدن نهاية أكتوبر (تشرين الأول) 2023 لأولى أفكاره لما بعد الحرب، إذ قال للإعلام “يجب أن تكون هناك رؤية لما سيأتي بعد الحرب، وفي رأينا أنه يجب أن تقوم على حل الدولتين”.
واستطلاعات الرأي التي أجريت في إسرائيل عقب الإعلان أكدت أن أكثر من 70 في المئة من الإسرائيليين يعارضون إقامة دولة فلسطينية، معتبرين أن إقامتها تعني أن الإرهاب الفلسطيني سيزداد قوة، أما نتنياهو من جهته فأكد خلال يناير (كانون الثاني) 2024 رفضه وجود دولة فلسطينية مستقلة، متمسكاً بأن إسرائيل ستكون لها “السيطرة الأمنية الكاملة والدائمة على كل الأراضي الواقعة إلى الغرب من نهر الأردن”، وهذا يعني كامل أراضي الضفة والقطاع، حاضنة الدولة الفلسطينية المستقلة المحتملة.
نظرة نتنياهو هي اختلاف تكتيكي عن رؤية غلاة المتطرفين والمستوطنين الذين يطالبون بإعادة الاحتلال الكامل للأراضي في ما يسمونها إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، ووضع الفلسطينيين أمام خيارين لا ثالث لهما، إما العيش كعبيد في وطنهم أو الخروج منه نهائياً.
والحقيقة التي لا تقبل الجدل في ضوء القانون الدولي هي أن إسرائيل دولة للفصل العنصري مع تعمق منطلقاتها الدينية والقومية المتطرفة، ويقول المتخصص في القانون الدولي ورائد مدرسة الواقعية السياسية البروفيسور جون ميرشهايمر في مقالة كتبها نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2023 بعنوان “الموت والدمار في غزة”، إن ما تفعله إسرائيل في القطاع بدعم من إدارة بايدن يعد جريمة ضد الإنسانية ولا يخدم أي غرض عسكري ذي معنى، مضيفاً أنه على رغم أن الإسرائيليين هم من ينفذون المذابح إلا أنهم لا يستطيعون الإقدام على تلك الخطوة من دون دعم من البيت الأبيض.
وينقل ميرشهايمر عن جنرالات إسرائيليين قولهم إن جميع الصواريخ والذخائر والقنابل الموجهة بدقة وجميع الطائرات الإسرائيلية تأتي من أميركا، وفي اللحظة التي يغلق فيها الأميركيون الصنبور فإنه لا يمكن لإسرائيل الاستمرار في القتال، فالجميع يعرف أن تل أبيب لا تستطيع خوض هذه الحرب من دون واشنطن.
وتسعى إدارة الرئيس بايدن منذ بدء الحرب إلى التعجيل بإرسال مزيد من الذخيرة إلى إسرائيل، متجاوزة الإجراءات العادية لقانون مراقبة تصدير الأسلحة في خرق للقانون الأميركي، وهو أمر بات يشكل ضغطاً على إدارة بايدن من قبل الرأي العام الأميركي المناهض للحرب.
ورطة القيم الديمقراطية واللوبي
ينتقل الرئيس بايدن وبصورة تدريجية من كونه “الأخ الأكبر” لإسرائيل، وهو الدور الذي لعبه في واشنطن خلال أعوام طويلة في الكونغرس أو الرئاسة الأميركية، إلى دور “العدو اللدود”، وهو على رغم كل ما يفعله من أجل تل أبيب يجد نفسه من حيث لا يدري في عداء مفتوح مع اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، وانعكاسات ذلك العداء ستكون على فرص فوزه بولاية ثانية ضد خصم قوي له سجل مبهر من الشراكة مع تل أبيب.
وخلال الأعوام الماضية برزت بعض التصدعات داخل اللوبي الإسرائيلي في واشنطن مع تبلور نشاط مجموعة الضغط “جي إستريت” اليهودية اليسارية المعارضة للموقف التاريخي للجنة الشؤون الأميركية الإسرائيلية (أيباك).
و”جي إستريت” المدعومة من أطراف في الحزب الديمقراطي تقبل بفكرة الدولتين، فيما ترفض “أيباك” تدخل واشنطن في السياسة الداخلية الإسرائيلية ومحاولة التأثير فيها، مقابل ضرورة تقديم الدعم غير المشروط للدولة اليهودية.
ومع بروز “جي إستريت” إلا أن “أيباك” تظل المنظمة الأكثر تأثيراً في السياسة الخارجية الأميركية، وعلى القوى الفاعلة في الكونغرس.
ومن زاوية أخرى تتوسع قاعدة الرفض بين صفوف الديمقراطيين وتحديداً اليسار والشباب والأقليات الذين لطالما كانوا داعمين للقضية الفلسطينية، ولاحظت قيادة الحملة الانتخابية لبايدن حجم الضرر الذي تعرضت له صورة الرئيس بين مناصريه داخل الحزب والذين يرون أنه بمعزل عن نياته لحل الدولتين، إذ يقف عاجزاً أمام التطرف الإسرائيلي والمذابح التي ترتكب ضد الفلسطينيين.
وتطالب تلك القاعدة الديمقراطية بمعاملة المساعدات العسكرية لإسرائيل بما يتفق مع القانون الأميركي، وتقييم وزارة الخارجية الخاص باستخدامات الأسلحة في انتهاك حقوق الإنسان خلال النزاعات، والالتزام بالقانون الدولي وقوانين النزاعات المسلحة.
ومع أن محاولات الديمقراطيين اليساريين تواجه معارضة قوية من ممثلي الحزب في الكونغرس تحت مبرر عدم الحد من فرص رئيسهم الانتخابية المتعثرة أصلاً في استطلاعات الرأي، إلا أن الأمر يختلف في عام انتخابي ستنعكس فيه هذه المعارضة على الأصوات في صناديق الاقتراع.
لا حل الدولتين أو أي حل
الرئيس بايدن عينه على الانتخابات المقبلة بعد تسعة أشهر، ويحاول سباق الزمن لتحقيق تهدئة وإتمام صفقة تبادل الأسرى، وقد سربت إدارته خلال اليومين الماضيين بأنها بصدد مطالبة إسرائيل بالالتزام بقوانين استخدام الأسلحة الأميركية.
وفي السياق نفسه جاءت تصريحاته الاستباقية حول التوصل يوم الإثنين المقبل إلى اتفاق ولكن بصعوبة، قبل أسبوع من دخول شهر رمضان، وهذا الاستباق لا يتفق مع ما تقوله الأطراف المعنية بالمفاوضات مثل قول الإسرائيليين بوجود “فجوات كبيرة” لا تزال باقية، وشعور قيادات “حماس” في الدوحة بخيبة أمل، وهم على خيباتهم لا يدركون فداحة وضع الفلسطينيين في أرض غزة حيث يموتون جوعاً، فيما تبحث الحركة في أضغاث أحلامها عن نقاط نصر تسجله فوق أشلائهم.
ولا يستطيع الرئيس بايدن إلا أن ينتظر معجزة تعظم فرص بقائه في البيت الأبيض، ودع عنك تحقيق أي إنجاز في مسار حل الدولتين ضمن رؤيته الأكبر للازدهار الإقليمي في الشرق الأوسط، فمن خلال قراءة تاريخه السياسي لا يمكن افتراض قيامه بممارسة ضغوط حقيقية ضد حكومة نتنياهو ولا بالاعتراف من طرف واحد بالدولة الفلسطينية المستقلة على أراضي الضفة والقطاع بقيادة السلطة الوطنية المستقلة، ورفع الدعم اللامحدود وغير المشروط لإسرائيل في مجلس الأمن وتجريم الاستيطان.
ولا شيء في نهج الإدارة الديمقراطية يشير إلى أنها ستفعل أكثر من مجرد الاستمرار في تقديم المشاريع الكلامية الواعدة، فيما تفسح المجال أمام المتطرفين اليمينيين وعتاة المستوطنين الإسرائيليين للتمكين على الأرض، في وقت تزداد صدقيتها انحداراً إلى مستويات غير مسبوقة في الشرق الأوسط.
وتتلاشى فرص حل الدولتين أمام تشبث اليمين المتطرف بسياسات الفصل العنصري، وفي الوقت نفسه تخفق تجارب المجتمع الدولي للتوصل إلى حل لتنفيذ قرار التقسيم رقم (181) الصادر عن الجمعية العامة عام 1947، وبقية قرارات الأمم المتحدة المتصلة بفلسطين.
كذلك هو الحال مع فكرة حل الدولة الواحدة متساوية الحقوق لكل سكانها أو الكونفدرالية أو غيرها، وستبقى إدارة بايدن ترقب انتخابات مآلها الفشل، فيما هيبة أميركا وتأثيرها في منطقة الشرق الأوسط تتداعى أمام ضربات إرهاب اليمين المتطرف والمستوطنين في إسرائيل من جهة، وإرهاب إيران وعملائها من جهة أخرى.
وفي مقالة منشورة بمجلة “نيويورك ريفيو” في الـ 21 من ديسمبر الماضي للبروفيسور في الجامعة العبرية بالقدس ديفيد شولمان، انطلاقاً من محادثة أجراها مع أحد المستوطنين في الضفة، فإنه ينعكس بوضوح البعد الديني المسياني للسلوك الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، إذ يعترف المستوطن بحرية قائلاً، “ما نفعله بهؤلاء الناس هو في الواقع غير إنساني، ولكن إذا فكرت في الأمر بوضوح فإن كل ذلك ينبع حتماً من حقيقة أن الله وعد اليهود بهذه الأرض، وهي لهم فقط”، فهل بعد ذلك من حل؟