إستراتيجية ترمب: تعزيز الهيمنة الأميركية عالميا عبر الطاقة والذكاء الاصطناعي

كتب أنس بن فيصل الحجي في صحيفة إندبندنت عربية.
الوثيقة التي أصدرتها إدارة الرئيس دونالد ترمب الأسبوع الماضي ما هي إلا مجموعة أمنيات يرغب البيت الأبيض في تحقيقها، لذلك علينا أن نفرق بين ما هو قديم وما هو جديد، وما يمكن تطبيقه وبين ما ترغب واشنطن في تطبيقه، ثم علينا أن ننظر في إمكان نجاح ما يمكن تطبيقه، وإلى ما هو مستدام مقارنة بما هو موقت.
وفي ظل هذه الفروق يجب فصل ما تريده الدولة العميقة وما تريده إدارة ترمب، فهذه الأمور تنطبق على كل الجوانب التي غطتها الإستراتيجية وليس في مجال الطاقة فقط، إذ تحوي الوثيقة فقرات مخصصة مباشرة لقطاع الطاقة، إضافة إلى كثير من الفقرات الأخرى التي ترتبط به ارتباطاً غير مباشر أو تؤثر فيه بصورة واضحة، مثل السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، وموقف الإدارة من قضايا تغير المناخ والحياد الكربوني.
ويمكن تلخيص جوهر الوثيقة في جملة واحدة، وهي “تعزيز هيمنة الولايات المتحدة عالمياً من خلال التركيز المكثف على موارد الطاقة والذكاء الاصطناعي، الذي يتطلب كميات هائلة من الطاقة لتشغيله وتطويره”.
وتحت عنوان رئيس عن الأمن الاقتصادي جاءت فقرات مختلفة عدة، واحدة منها تتعلق بالطاقة وجاء فيها أن “استعادة الهيمنة الأميركية على قطاع الطاقة (في النفط والغاز والفحم والطاقة النووية) وإعادة توطين سلسلة إمدادات الطاقة الرئيسة اللازمة يُعد أولوية إستراتيجية قصوى، إذ ستسهم الطاقة الرخيصة والوفيرة في خلق وظائف بأجور جيدة داخل الولايات المتحدة، وخفض الكُلف على المستهلكين والشركات الأميركية، ودعم إعادة التصنيع والمساعدة في الحفاظ على تفوقنا في التقنيات المتطورة مثل الذكاء الاصطناعي، وكذلك فإن توسيع صافي صادراتنا من الطاقة سيعمق علاقاتنا مع حلفائنا ويقلص نفوذ الخصوم، ويحمي قدرتنا على الدفاع عن حدودنا، ويمكّننا عند الضرورة وحيثما كان ذلك ضرورياً من إبراز قوتنا، ونرفض أيديولوجيات ‘تغير المناخ’ و’صافي الانبعاثات الصفري’ الكارثية التي ألحقت ضرراً بالغاً بأوروبا وتهدد الولايات المتحدة وتدعم خصومنا”.
وكل الأمور المتعلقة بالطاقة أعلاه ليست جديدة وإنما هي أمور كررها ترمب، ليس خلال فترة رئاسته الأولى وحسب بل حتى قبل ذلك بأعوام من خلال ما دوّنه في كتبه أو ذكره في مقابلاته التلفزيونية، لكن هناك فارقاً في غاية الأهمية وهو التركيز على الهيمنة العالمية بدلاً من استقلال الطاقة الذي كان ينادي به ترمب، ففكر الهيمنة جاء بعد تطورات جديدة لم تكن موجودة خلال فترة ترمب الأولى، وهو توسع الولايات المتحدة في إنتاج وتصدير الغاز المسال حتى أصبحت الدولة الأولى في العالم، والارتفاع الكبير في صادرات النفط والفحم، وهذه التطورات عززت فكر الهيمنة وألغت فكر استقلالية الطاقة، وكنت ذكرت خلال الأعوام الأخيرة عشرات المرات في مقالات ومقابلات ومساحات أن صادرات الغاز المسال أصبحت جزءاً لا يتجزأ من السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
والأمر الآخر هو التوسع في فرض الحظر على صادرات النفط الروسي والإيراني والفنزويلي الذي غير مسارات التجارة العالمية من جهة، وجعل نفط هذه الدول والغاز المسال في حال روسيا يباع بأسعار أقل من السوق ويخفض إيرادات هذه الدول، ولذلك فالتوسع في تصدير الطاقة وتطبيق الحظر أدى إلى تبني فكرة الهيمنة، وهو الذي أوجد ما يمكن تسميته الآن بـ “حروب الغاز المسال”.
حقيقة الأمر أن استخدام الغاز المسال كسلاح في السياسة الخارجية لا يعود لترمب ولكن للدولة العميقة في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2014، وعند الحديث عن الدول العميقة هنا فإن المقصود هو اتفاق الحزبين الجمهوري والديمقراطي على سياسة ما، بغض النظر عمن هو في البيت الأبيض، وجاء كرد فعل على ضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جزيرة القرم وقتها، وجرى اتخاذ قرار بدعم صناعة الغاز المسال كي يحل الغاز الأميركي محل نظيره الروسي في أوروبا، ونجحت الولايات المتحدة في ذلك بصورة كبيرة وأصبحت الآن أكبر مصدّر للغاز إلى أوروبا.
أما الجزء المتعلق بـ “خلق وظائف بأجور جيدة في الولايات المتحدة، وخفض الكُلف على المستهلكين والشركات الأميركية ودعم إعادة التصنيع”، فهو ضرب من الخيال، ولهذا ينظر لما كتب في الإستراتيجية على أنه هدف أو أمل، فما يحصل في أرض الواقع هو العكس مع تسريح آلاف العمال والموظفين، سواء في قطاع النفط والغاز أو الطاقة المتجددة، وفي وقت انخفضت أسعار البنزين فقد ارتفعت أسعار الكهرباء بصورة كبيرة، مما يعني أن هناك تطوراً كبيراً في الانتخابات الأميركية وهو إحلال أسعار الكهرباء كقضية محورية بدلاً من أسعار البنزين.
وليست هناك أية أدلة تشير إلى عودة المصانع الولايات المتحدة، ومن ثم ليس هناك وظائف جديدة، فالمشكلة التي تعانيها المصانع الأميركية الآن هو الضرائب الجمركية المرتفعة على بعض المواد المهمة، بما فيها الفولاذ والألومنيوم، وهما من أهم الموارد لصناعة الغاز والنفط والغاز المسال والطاقة النووية.
وكما ذكرت في البداية فإن معظم إستراتيجية الهيمنة تركز على الطاقة والذكاء الاصطناعي، والحفاظ على تفوق الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي يتطلب توافر طاقة بكميات كافية ورخيصة نسبياً، ولهذا فإن ما قيل في هذه الإستراتيجية صحيح ولكن المشكلة في التطبيق، فكي تقوم شركات الكهرباء ببناء مزيد من المحطات، مهما كان المصدر، فهي تحتاج إلى ضمان الطلب من جهة وتمويل من جهة أخرى، ولهذا نرى تأخيراً من قبل الشركات في بناء محطات كهرباء جديدة على رغم التدخل المباشر من البيت الأبيض في هذا المجال، والطاقة النووية من المفاعلات الجديدة لن تنتج إلا بعد أعوام من الآن، والحل هو الغاز لكن شركات تصنيع التوربينات لا تستطيع أن تنتج بما فيه الكفاية، وقائمة الانتظار تصل إلى ثلاثة أعوام، والطاقة المتجددة متقطعة ولا يمكن أن تتوسع من دون إعانات، وترمب أوقف هذه الإعانات، وكذلك فهي تحتاج إلى بطاريات تخزين وهذه تحتاج إلى إعانات أيضاً، وعلى المدى القصير ليس هناك مجال إلا التوسع في استخدام الفحم وارتفاع أسعار الكهرباء، ونتيجة الأمر هنا أن فكرة الربط بين وفرة الطاقة والذكاء الاصطناعي صحيحة تماماً، ولكن ما يحصل في أرض الواقع يعني أن ما ورد في الإستراتيجية حول ما يتعلق بخفض الكُلف ودعم التصنيع مجرد أهداف أو أحلام.
أخيراً ما ذكرته الإستراتيجية في ما يتعلق بالمناخ، “نرفض أيديولوجيات ‘تغير المناخ’ و’صافي الانبعاثات الصفري’ الكارثية التي ألحقت ضرراً بالغاً بأوروبا وتهدد الولايات المتحدة وتدعم خصومنا”، فهو ما يقوله ترمب منذ زمن بعيد ولا يعبر عن إستراتيجية على الإطلاق، وإنما عن أيديولوجية معاكسة لأيديولوجية المناخ، والعبارة تؤكد ما ذكرته كثيراً في مقالات سابقاً عن التناقض بين سياسات المناخ والأمن القومي، وبعبارة أخرى فكل إنسان “قومي” في أي بلد في العالم سيرفض أيديولوجية المناخ لسببين، أولاً لأن الأمن القومي أهم، والثاني أن أيديولوجية المناخ عالمية قائمة على فكرة أنه لا يمكن وقف التغير المناخي إلا من خلال تعاون عالمي، والذي تشرف عليه منظمات دولية، وهذا يرفضه ترمب وكل القوميين حول العالم، والمشكلة هنا أن كل ما قام به ترمب على أرض الواقع قرارات رئاسية يمكن لأي رئيس في المستقبل عكسها، بينما سياسات المناخ الأميركية أصبحت قانوناً منذ عهد بايدن عندما مرر الكونغرس ومجلس الشيوخ قانون “خفض التضخم”، وهو عبارة عن تطبيق كامل للسياسات المناخية التي ترفع معدلات التضخم، عكس ما يدعيه اسم القانون، وبعبارة أخرى فسياسات ترمب موقتة بينما البلاد لا تزال محكومة بقوانين الرئيس السابق جو بايدن.
خلاصة الأمر أنه ليس هناك شيء جديد في هذه الإستراتيجية المعلنة، إذ إن معظمها تكرار لما كان يقوله ترمب ومن حوله منذ أعوام، وجزء كبير منه مجرد أهداف أو أحلام، وجزء منه قد يكون موقتا ويمكن عكسه في أي وقت، والشيء الثابت ليس جديداً أيضاً وهو استخدام الطاقة كسلاح، وكون صادرات الطاقة الأميركية أصبحت جزءاً من السياسة الخارجية، تدعمها قرارات الحظر والضرائب الجمركية لتعزيز صادرات الطاقة الأميركية.
وباختصار فالهيمنة الأميركية على العالم من خلال صادرات الطاقة وسياسات الحظر والتعرفة الجمركية حقيقة واقعة، ولكن السؤال هنا من خلال هذه الإستراتيجية هو هل من مصلحة الولايات المتحدة إنهاء الصراع مع روسيا وإيران وفنزويلا؟ وهل ردود فعل الصين خلال الأعوام الثلاثة الماضية المتعلقة بالطاقة هي رد فعل على هذه الإستراتيجية التي تتبناها الدولة العميقة في الولايات المتحدة؟ ومن ثم فإن الإستراتيجية التي جرى إعلانها هي تحصيل حاصل؟
منذ نحو 20 عاماً كتبت مقالة تتمحور حول فكرة أن أزمة النووي الإيراني طويلة المدى وهو ما تحقق فعلاً، فهل من مصلحة الولايات المتحدة إنهاء الحظر على إيران؟ هذه الأمور ستجري مناقشتها خلال مساحة الثلاثاء المقبل.




