إدارة الأزمة مع «الذرية» عبر مصر | إيران لا تتنازل: الأولوية لاستعادة الردع

كنب محمد خواجوئي, في الأخبار:
تدير مصر وساطة بين طهران و«الذرية» لتخفيف التوتّر، فيما تتمسّك إيران بأولوية استعادة الردع وترفض أيّ تنازل في ملفّها النووي.
إلى جانب ملفَّيْ وقف إطلاق النار في غزة، والنزاع بين إسرائيل ولبنان، تعمل مصر حالياً على لعب دورٍ في الملفّ النووي الإيراني، وتحديداً في الوساطة بين طهران و»الوكالة الدولية للطاقة الذرية». وأعلنت وزارة الخارجية المصرية، في بيانٍ أمس، عن إجراء مباحثات هاتفية بين وزير الخارجية بدر عبد العاطي، ونظيره الإيراني عباس عراقجي، كما أجری اتصالاً آخر مع المدير العام للوكالة، رافاييل غروسي. وجاء الاتصالان في إطار «متابعة مستجدّات الملفّ النووي الإيراني، والعمل على دعم الأمن والاستقرار في المنطقة من خلال إيجاد حلول سلمية لهذا الملف»، وفق ما جاء في البیان.
وأكّد عبد العاطي، خلال الاتصالین، «أهميّة مواصلة الحوار بين الطرفَين، واستئناف وتعزيز التعاون بينهما، استناداً إلى الاتفاق الذي تمّ توقيعه في القاهرة في التاسع من أيلول الماضي»، مشدّداً على «ضرورة تكثيف الاتصالات بين الأطراف المعنية خلال الفترة المقبلة». وأفاد البيان بأن الاتصالَين جاءا بتوجيه من الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي طالب «ببذل جهود من أجل خفض التوتّر وتحقيق التهدئة في منطقة الشرق الأوسط».
وكانت إيران والوكالة الدولية وقّعتا، في التاسع من أيلول، اتّفاقاً في شأن استئناف التعاون الذي كانت طهران علّقته في أعقاب حرب الـ12 يوماً. وعلى رغم التوقّعات بأن يدفع «اتفاق القاهرة»، الدول الغربية إلى عدم المضيّ قدماً في إعادة فرض العقوبات الدولية على الجمهورية الإسلامية، لكن ذلك لم يحدث؛ فعادت العقوبات نهاية أيلول الماضي، ما أدّى عمليّاً إلى انهيار العلاقات بين إيران والوكالة، ومعها اتفاق القاهرة، بعدما كان الجانب الإيراني هدّد بالانسحاب من الاتفاق في حال عودة العقوبات.
وتُظهر التطوّرات، توجّه إيران نحو إطار «مُخفَّض» للتعاون بينها وبين الوكالة، لا ينطوي على إنكار التعاون من حيث المبدأ، ولا يسمح – في الوقت ذاته – باستمرار ممارسة الوكالة لصلاحياتها الواسعة المستندة إلى قرار مجلس الأمن 2231 داخل الأراضي الإيرانية. ومع انقضاء القرار المذكور (الذي شكّل الإطار القانوني للاتفاق النووي لعام 2015 بين إيران والقوى العالمية) في الـ18 من تشرين الأول، قدّمت طهران تفسيراً قانونياً جديداً مفاده أنه «بما أنّ مهامّ التقارير الفصلية للمدير العام كانت مُحدَّدة في ملاحق هذا القرار، وبما أنّ الأطراف الغربية أساءت استخدام آلية سناب باك، وأفقدت القرار فعّاليته عمليّاً، فإنّ إيران تَعتبر نفسها في حلٍّ من إجراءاته الصارمة، بما في ذلك آليات الرقابة الخاصة للوكالة الدولية للطاقة الذرّية».
يبدو أنّ الملف بين إيران والوكالة يتّجه نحو صيغة من «التوازن غير المستقر ولكن القابل للإدارة»
ويهدف هذا الخطّ من الاستدلال القانوني، إلى خفض الهيكل الرقابي للوكالة داخل الأراضي الإيرانية إلى المستوى الضماني الاعتيادي، وإعادة البرنامج النووي من نطاق «الرقابة الاستثنائية» إلى «الإجراءات العادية» المُتّبعة.
من وجهة نظر طهران، فإنّ حرب الصيف الماضي، وما كشفته من ثغرات في المنظومة الدفاعية، منحت أولوية مطلقة لاستعادة الردع العسكري، الأمر الذي خفّض في المدى القصير هامش المناورة في أيّ تسوية نووية؛ وبالتالي لم تَعُد لدى إيران المرونة السابقة للتنازل في الملف النووي.
في مقابل هذا المسار، حاول المدير العام للوكالة الدولية، عبر الضغوط الإعلامية، والإحالة على الأسئلة التقنية العالقة، والتحذير من تداعيات عدم التعاون، الإبقاء على الرواية الغربية حيّة بهدف الحفاظ على أدوات التفاوض لمصلحة الغرب. غير أنّ طهران، عبر خطابها القانوني والسياسي الجديد، غيّرت قواعد اللعبة وقلّصت فعالية هذا النهج. وعلى الرغم من الأضرار التي لحقت ببعض المنشآت النووية الإيرانية خلال الهجوم الإسرائيلي – الأميركي، لا يزال البرنامج النووي الإيراني مصدر قلق بالنسبة إلى الغرب. وتقول الدول الغربية إن إيران لم تَعُد تمتلك أيّ حقّ في تخصيب اليورانيوم، ويجب عليها تسليم المواد المُخصّبة التي في حوزتها، والموافقة على عودة مفتّشي «الوكالة الدولية للطاقة الذرّية». في المقابل، تؤكّد طهران أنّ برنامجها النووي سلمي الطابع، وأنّ تخصيب اليورانيوم حقّ سيادي لها، وأنّ أيّ خفض في أنشطتها النووية يجب أن يقابله رفع للعقوبات وتقديم ضمانات بعدم تكرار الاعتداء عليها.
وفي هذا السياق، تسعى مصر إلى تثبيت دورها في الوساطة بين إيران والغرب إلى جانب بعض الدول الخليجية، ومنع احتكار هذا الدور من قِبل قطر أو عُمان. وفي الوقت الذي من المُقرّر أن تُعقد فيه جلسة مجلس حكّام الوكالة، بعد ثلاثة أسابيع في فيينا، يبدو أنّ السيناريو الأكثر ترجيحاً، خلال الأشهر المقبلة، يتمثّل في استمرار التعاون المحدود، وعقد مفاوضات فنية دورية، وإدارة منسوب التوتّر من دون التوصّل إلى تسوية جذرية.
وسيسعى بعض الوسطاء، ومن بينهم مصر، إلى بلورة آلية ناعمة وغير مُلزِمة قانونيّاً لتعزيز إجراءات بناء الثقة إقليميّاً، على نحو لا يفرض التزامات صلبة على إيران ولا يقطع في الوقت ذاته أوراق الضغط بيد الغرب.
ويبدو أنّ الملف بين إيران والوكالة يتّجه نحو صيغة من «التوازن غير المستقر ولكن القابل للإدارة»: وضعٌ لا يفضي إلى انفجار حادّ ولا يقود إلى اتفاق شامل، بل يبقى في مستوى أزمة مُسيطَر عليها إلى حين تبلور إطار أمني أكثر استقراراً في الشرق الأوسط.




