رأي

أين روسيا والصين من الحرب؟

كتب محمود الريماوي في العربي الجديد.

بعد مضي أربعة أشهر على حرب وحشية على غزّة، تتّجه الأنظار فقط إلى الحليف الأميركي، كي يمارس نفوذه على حكومة نتنياهو، غير أنه لا يفعل سوى محاولة تقليل الكلفة البشرية لهذه الحرب (وليس وضع حد لها) وتسهيل دخول المساعدات إلى القطاع، مع الامتناع عن الدعوة إلى وقف الحرب. لا تتوجّه الأنظار نحو طرف دولي آخر، ما يثير التساؤل عما إذا كان العالم قد انتقل حقّا إلى تعدّدية قطبية، حسب ما بشّر كثيرون وجزموا خلال ذلك بنهاية العصر الأميركي في العقد الأخير على الأقل. والواضح أن ثمّة تعددية في المراكز الدولية ونموا في الأوزان الاقتصادية والعسكرية للصين وروسيا، غير أن هذه التعدّدية، ومعها نمو الأوزان، تندرج أساسا في سياسة تعزيز المصالح القومية للبلدين، ومن غير أن يمتلكا خطابا عالميا يتوجّه إلى الدول والشعوب في قارّات الأرض، فروسيا تعزّز نفوذها في محيطها، في جورجيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، وتقود حروبا لذلك. وعلى نطاق أوسع، تمدّ نفوذها إلى أفريقيا للتنافس مع النفوذين الفرنسي والأميركي، وإلى الشرق الأوسط: سورية وليبيا بدرجة أقل، لمزاحمة النفوذ الغربي أيضا، ويقتصر خطابها خلال ذلك على مهاجمة النفوذ الغربي، وليس تمكين الشعوب من إدارة شؤونها بنفسها.

لقد سعت موسكو إلى استصدار قرارات في مجلس الأمن لوقف الحرب على غزّة وهو جهد مقدّر، غير أن استمرار حربها على جارتها أوكرانيا يُفقدها الأوراق السياسية الكافية، إذ لا يمكن التوفيق بين الانهماك في حرب والدعوة الى وقف حرب في بلد آخر. وعملت بكين على هذا من خلال مجلس الأمن، ومن خلال منبر مجموعة بريكس، غير أنها، شأن موسكو، لم تضع المسألة في مصاف تهديد السلم والأمن الدوليين مع ما يستلزم ذلك من إجراءات، وانشغلت خلال ذلك بالأزمة مع تايوان وبخلافات حدودية مع الهند، وبتوثيق علاقاتها مع موسكو، وظلت مبادرتها الدبلوماسية الناجحة في التقريب بين السعودية وإيران إنجازا شبه وحيد في الشرق الأوسط، على مستوى التعامل مع النزاعات والتوترات الإقليمية، مع التذكير بأن الاتصالات الصينية الإسرائيلية انخفضت وتيرتها إلى أدنى حد منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، في وقت شهدت علاقات الصين نموا واسعا مع مصر ودول مجلس التعاون الخليجي ودول عربية أخرى. وهكذا احتفظت القوتان الكبيرتان بوضعية التأثير الضئيل على مجريات الحرب على غزّة. ولم تحظ، على سبيل المثال، مبادرة جنوب أفريقيا لمحاسبة تل أبيب على حرب الإبادة أمام محكمة العدل الدولية باهتمام ملحوظ من موسكو وبكين، فيما تجنّدت دول أقل وزناً للوقوف إلى جانب هذه المبادرة.

وفي الحملة الإسرائيلية لتصفية وكالة الغوث (أونروا)، الشاهدة على جريمة التشريد الفلسطيني القسري عام 1948، لم تبدِ روسيا والصين اهتماما بهذه المسألة، علماً أن الوكالة تقوم حاليا بدور بطولي لإغاثة أبناء غزّة، ولعل السبب أن البلدين لا يُسهمان في ميزانية هذه الوكالة الأممية، وهو ما حمل المفكّر العربي عزمي بشارة على دعوتهما إلى المساهمة في هذه الميزانية أسوة بدول أخرى، علما أن المساهمة المالية في هذه الوكالة تحمل مغزىً سياسيا ومعنويا غير خافٍ.

إن كانت التعدّدية في عالمنا قائمة فهي تقوم أساسا على التنافس على النفوذ

هناك مظاهر لتعددية المراكز الدولية التي تسحب من رصيد النفوذ الأميركي والغربي، كنشوء مجموعة بريكس، وهي منظمة تعاون اقتصادي في الأساس، ولا تربط أعضاءها رؤى سياسية موحّدة، غير أن مهامها قابلة للتطور، وخصوصا إذا ما توسعت في المبادلات التجارية بين أعضائها بالعملات المحلية. لكن “بريكس” لا تمثل، حتى تاريخه، كيانا سياسيا كما كان الحال لدى مجموعة عدم الانحياز في القرن الماضي. علما أن ثمة نزعة استقلالية، تروم النأي عن تأثير المحاور الدولية، تتنامى لدى دول عديدة ناهضة، مثل تركيا وماليزيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، فيما تسعى موسكو إلى مواجهة النفوذ الغربي بتشكيل محور يضم الصين وإيران وكوريا الشمالية وكوبا، غير أن الصين لا تجد نفسها عضوا في محور سياسي، بل قطباً اقتصادياً وسياسياً قائماً بذاته.

والى جانب ذلك، الإخفاق في هيكلة مجلس الأمن باتجاه توسيع عضويته، وإعادة تحديد صلاحياته، عقبة كبيرة أمام بروز “نظام عالمي جديد”، ولم تنجح روسيا والصين في حشد عدد كاف من الدول الأعضاء المؤثّرة لبلوغ هذه الغاية، أو التوافق بشأنها، إذ تمثل تشكيلة هذا المجلس تكثيفا لتوزيع مراكز النفوذ والتأثير في العالم، ولتقاسم المسؤوليات لرعاية الأمن الدولي، وليس واضحاً ما إذا كانت روسيا والصين تنشغلان جدّياً بهذه المسألة او تمنحانها اهتماماً خاصاً.

كان المأمول أن ينتهي العصر الأميركي، كما بشّر متحمّسون، لكنه لم ينتهِ

ما زال للولايات المتحدة نفوذ سياسي كبير على عشرات الدول، منها دول أوروبية عديدة، وعلى أستراليا وكندا واليابان وغيرها، وكان المأمول أن ينتهي العصر الأميركي، كما بشّر متحمّسون، لكنه لم ينته، بل تجد القيم السياسية الأميركية في الهيمنة ومد النفوذ لها صدى واستنساخاً حتى لدى دول تناوئ أميركا، وباتت دول قليلة تمتلك خطابا تحرّريا و”إنسانياً” يخاطب البشرية جمعاء، وتضع مصلحة الشعوب في التحرّر والتقدّم في الاعتبار الأول، فإن كانت التعدّدية في عالمنا قائمة فهي تقوم أساسا على التنافس على النفوذ. وعليه، لم يكن غريباً أن تجد محنة أبناء غزّة أصداء قوية لها، مثلا، في جنوب أفريقيا وبوليفيا والنرويج وأيرلندا، وليس لدى دول كبرى.

ولعل خبرات الدول والشعوب في العقود الماضية تثبت أن تحالفات إقليمية متجانسة وعلاقات متوازنة مع بقية الدول تفيد في المحصلة أكثر من التعويل على دول كبرى، وفي مقدمها دول غربية. وفي محنة غزّة، وهي مناسبة هذا الحديث، في وسع بلدين عربيين كبيرين، مصر والسعودية، إضافة إلى جهود كبيرة وحثيثة بذلتاها، أن تلقيا بثقلهما السياسي للجم آلة الحرب الإسرائيلية، بأكثر وأكبر مما هو منتظر من أي طرف دولي.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى