رأي

“أيباك” في مرمى النيران

كتب عبد السلام فاروق في صحيفة بوابة الأهرام.

كلما استدارت عجلة التاريخ، تخلفت عن مسارها حبات رمل كانت تبدو ثابتةً.

هكذا هي السياسة الأمريكية اليوم، حيث يتآكل الوسط التقليدي في الحزبين “الجمهوري والديمقراطي”، كصخرة تتهاوى تحت ضربات أمواج متلاطمة. هذا الوسط – الذي ظل لعقود يمسك بخيوط اللعبة – لم يعد قادرًا على خياطة ثوب فضفاض يلبسه جميع الأمريكيين. لقد أصبح رداءً قديمًا متهالكًا، تظهر من خلال ثقوبه تمزقات المجتمع وصراعاته التي لم تعد تُخفيها خطابات الوئام الزائف.

هذا الانهيار ليس مجرد انتقال للسلطة بين فريقين، هو -في تقديري- موت بطيء للثقة. فحين يفشل الحاكم التقليدي في فهم آلام المحكوم، وحين تتحول السياسة إلى طقس مكرر من النقاشات التليفزيونية الفارغة والوعود الانتخابية المعلبة، فإن الشعب لا يُغير اتجاه صوته فحسب، بل يبدأ في التشكيك في النظام نفسه. هذا الفراغ الذي يتركه فقدان المصداقية لا يبقى شاغرًا طويلًا. إنه كالطبيعة، يمقت الفراغ.

ومن رحم هذا الفراغ، ينهضان: تيار تقدمي في الحزب الديمقراطي، يرفع شعار العدالة الاجتماعية بإلحاح ثوري، وتيار قومي شعبوي في الحزب الجمهوري، يهتف بـ “أمريكا أولًا” بصراحة غاضبة. كلاهما، رغم اختلافهما الجذري، يشتركان في كسر القوالب البالية. كلاهما ينظر إلى المؤسسة القديمة كعدو يجب تجاوزه. وكلاهما، وهذا هو القلب من المعضلة، يرفع سيف المعارضة تجاه كيان كان يُعتبر حتى الأمس القريب “بقرةً مقدسةً” في السياسة الأمريكية: إسرائيل، ونفوذ “أيباك”.

هنا تكمن الزلزلة الحقيقية..

لقد ظلت العلاقة مع إسرائيل لعقود جزءًا من “العقيدة السياسية الأمريكية” التي لا تُمَس. كانت حربها حربنا، وأمنها أمننا، وتمويلها واجبًا لا يُناقَش. لكن هذه المعادلة كانت تُبنى دومًا من فوق، من أبراج واشنطن العالية، لا من سهول أوهايو أو شوارع كاليفورنيا.

كان “الوسط” الحاكم هو الضامن لاستمرار هذه الآلة، وهو الجسر الذي تمر عبره مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين إلى جيوب مُجمَّع عسكري وصناعي في الشرق الأوسط. اليوم، يسأل التقدمي: لماذا توجد مدارس متهالكة (مدارسنا) تتداعى، وجسورنا تتشقق، بينما نُموّل جيشًا يحتل أرضًا ويُدمّر حياة شعب؟ ويسأل القومي الشعبوي: لماذا نستنزف دماء الجنود وثرواتنا في حروب لا تنتهي لأجل حلفاء يتلاعبون بنا؟

السؤالان، وإن اختلفت دوافعهما الفلسفية، يلتقيان في النتيجة: كفى. إنها معضلة إسرائيل و”أيباك” لأنها اختراق لجدار كان منيعًا. لم يعد “معاداة السامية” تهمةً كافيةً لإسكات هذا الصوت المتصاعد. لقد اكتشف جيل جديد أن هناك فرقًا بين معاداة اليهود وانتقاد دولة. لقد أدرك أن بإمكانه الوقوف ضد الاحتلال دون أن يكون عدوًا للشعب اليهودي. هذه الصيحة الفكرية هي التي تُهدد أقدم وأقوى لوبي في واشنطن.

التاريخ لا يتحرك في خط مستقيم. هذه التيارات الجديدة قد تتعثر، وقد يتم احتواؤها، أو قد تنجح في رسم خريطة سياسية جديدة. لكن المحصلة النهائية أن عصر الصمت قد ولى. لم يعد الأمريكي ذلك الكائن الساذج الذي يُصدق كل ما يُقال له. لقد فتح انهيار الوسط الباب لأسئلة كانت مُحرَّمةً، ولحوارات كانت مُغلقةً.

ربما تكون هذه لحظة التيه التي تسبق ولادةً جديدةً. ربما تكون أمريكا على أعتاب تعريف نفسها من جديد: من هي؟ ما مصالحها الحقيقية؟ وكيف تتعامل مع العالم دون أن تفقد روحها أو تُنكر قيمها؟ في هذا المخاض العسير، لن تكون إسرائيل وحدها على المحك، بل ضمير أمريكا نفسه. ذلك الضمير الذي نام طويلًا، وهو يسمع من بعيد صليل السيوف وأصوات الأطفال في أراضٍ بعيدةٍ، حتى أيقظه صراخ جيلين: تقدمي وشعبوي، اتفقا على سؤال واحد: إلى متى؟

تحولات القوة

ما يشهده الداخل الأمريكي اليوم ليس تحولًا عابرًا، إنه تشقق في بنية القوة التي حكمت العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ذلك “الوسط” الذي يتهاوى لم يكن مجرد تحالف حزبي، بل كان نظامًا كاملًا: عقدًا اجتماعيًا بين النُخب، واتفاقًا غير مكتوب على حدود الصراع، وإدارةً مُحكَمةً للخلافات. كان يُمثل الاستمرارية التي تسمح بتبادل السلطة دون مساس بالثوابت الكبرى.

ولكن كيف انكسرت هذه الآلة العظيمة؟

أولًا: اقتصاد اللامساواة

لقد نسجت العولمة ثراءً خياليًا في وول ستريت، بينما نسفت مصانع الحزام الصناعي. ذلك العامل في ولاية ميتشيجان الذي فقد عمله، أو ذلك الشاب في مدينة كبيرة غارق في ديون التعليم، لم يعودوا يُصدقون وعود الوسط. لقد بات الحلم الأمريكي يُشبه قطارًا سريعًا يمر بهم دون أن يقف.

ثانيًا: حروب بلا نهاية

من العراق إلى أفغانستان، خرج جيلان من الأمريكيين يحملان أسئلةً وجوديةً: من الذي يستفيد من هذه الحروب؟ لماذا ندفع دماءنا وأموالنا ثمنًا لأوهام أمنية؟ سقطت ورقة التوت التي كانت تُخفي المصالح وراء شعارات الديمقراطية والحرية.

ثالثًا: الصحوة الثقافية

انفجرت قضايا العرق والهوية والعدالة الاجتماعية كبركان طالما كبته خطاب “الانصهار” الأمريكي. لم يعد ممكنًا إخفاء الشرخ الأصلي في تجربة أمريكا. التيار التقدمي يريد علاج هذا الشرخ بالاعتراف به والتعامل معه، بينما التيار الشعبوي يريد إعادة تعريف الهوية الأمريكية حول محور ثقافي محدد.

في هذا المشهد، تأتي معضلة إسرائيل كحجر عثرة أمام كلا التيارين: فالتيار التقدمي يرى في الصراع الفلسطيني نموذجًا للقمع الاستعماري، ويجد في نقد إسرائيل امتدادًا لنضاله من أجل العدالة عالميًا. إنه يرفض أن تكون أمريكا شريكًا في “أبارتايد” جديد. أما التيار القومي الشعبوي، فيرى في الدعم الأعمى لإسرائيل إهدارًا للمصالح الأمريكية. إنه يحسب حسابًا باردًا: ماذا استفادت أمريكا من كل هذا الدعم؟ ولماذا نستمر في تمويل دولة أصبحت عبئًا إستراتيجيًا أكثر منها شريكًا مفيدًا؟

لكن المعضلة الحقيقية تكمن هنا: كيف ستتعامل المؤسسة العميقة – الجيش، المخابرات، مُجمَّع الصناعات العسكرية – مع هذا التحدي؟ هذه المؤسسة التي تربطها بإسرائيل علاقات مصلحة ومعتقدات إستراتيجية متجذرة؟

ربما نشهد واحدةً من ثلاث سيناريوهات: السيناريو الأول القمع الناعم: محاولة إعادة التيارين إلى الحظيرة عبر تهديدات خفية ووعود متجددة، باستخدام آلة الإعلام والمال. أما الثاني فهو سيناريو الاصطدام، أي المواجهة المفتوحة التي قد تؤدي إلى انشقاقات حزبية كبرى، بل وإلى إعادة رسم الخريطة الحزبية الأمريكية تمامًا.

والسيناريو الثالث هو التحول التدريجي: حيث تبدأ السياسة الأمريكية في التكيف مع الواقع الجديد، عبر إعادة تعريف العلاقة مع إسرائيل بشكل أكثر توازنًا.

والسؤال الأعمق الآن هو، هل تمتلك الديمقراطية الأمريكية المرونة الكافية لاستيعاب هذا الصدام دون أن تتحول إلى نظام مختلف؟ أم أننا نشهد بدايةَ نهايةِ النموذج الليبرالي الذي هيمن منذ نهاية الحرب الباردة؟

ما يحدث في الولايات المتحدة ليس شأنًا أمريكيًا خالصًا، فحين تعطس واشنطن، يُصاب العالم بالإنفلونزا، وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتجه نحو مرحلة من الشك الذاتي والانكفاء، فإن هذا سيخلق فراغًا في النظام العالمي سيسارع آخرون لملئه.

في النهاية، التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يتناغم. ربما نشهد لحظةً تُشبه انهيار الإجماع حول فيتنام في السبعينيات، لكن على نطاق أوسع وأعمق. لحظة يسقط فيها تمثال آخر من تماثيل اليقين السياسي، ليَكشف عن وجه أمريكا الحقيقي – ذلك الوجه الذي طالما أخفته وراء قناع من البراءة الواثقة. إنها رحلة عبور إلى المجهول، يحمل فيها كل أمريكي حقيقته: حلمه المكسور، وأمله العنيد في غدٍ أفضل.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى