كتب بلال الصنديد في “الجريدة”: نجحت دولة قطر في تحقيق أحد أهم إنجازاتها التنموية باستضافة أول نسخة عربية من كأس العالم «المونديال»، ففرضت نفسها على المجتمع الدولي- كروياً وإعلامياً وسياسياً- رغم كل ما ظهر من أصوات معارضة لم تفلح في خدش بهاء الصورة للثقافة العربية والتقاليد الإسلامية والفطرة الإنسانية لمجتمعنا الملتزم والمعتز بإرثه الحضاري. لا شك أن نجاح واحدة من أصغر دول العالم مساحة في تنظيم أكبر حدث كروي عالمي من شأنه أن يلفت الأنظار وأن يثير بعض اللغط، ويستدعي بعض النقد الهدّام أو حتى الغيرة غير المبررة، فبين معترض على تشغيل العمالة في ظروف صحراوية قاسية، ومحذّر من التأثير السلبي لانبعاثات مكيفات المنشآت الضخمة على الهواء والمناخ، مروراً بالاحتجاج على تشدّد السلطات القطرية بمنع الخمر والشعارات والتصرفات المخلة بالآداب والنظام العام في محيط الملاعب وداخلها، يبقى على دولة قطر أن تواجه كل ذلك ليس على نحو آني مباشر فقط، بل بإثباتها مستقبلاً- باسمها واسم جميع الدول العربية والإسلامية- أننا قادرون على مقارعة التحديات الكبرى ومجاراة أكبر دول العالم مساحة وإمكانات في جميع المحافل وعلى المستويات كافة.
وهكذا أعلنت «الدوحة» نفسها عاصمة للرياضة العالمية بحيث من المتوقع والواجب والمأمول أن تصبح استضافة «المونديال» أول مسار الاستضافات المتلاحقة لأهم المنافسات الدولية في كل الألعاب الصيفية وربما الشتوية لاحقاً، وهذا ما يشكل حلقة في سلسلة التنمية الخليجية التي تبرز فيها الجهود السعودية لتكريس المملكة كعاصمة للمشاريع الكبرى في الخليج العربي والشرق الأوسط، بعد أن نجحت «دبي» بفرض نفسها كمركز استقطاب سياحي عالمي، وهذا أيضاً ما يبرز أهمية التكامل الخليجي والعربي بحيث يصبح تميّز كل دولة مفيداً لغيرها ومكمّلاً للصورة الأشمل والأجمل التي تريد أن تراها أجيالنا الطموحة والمؤهلة. ما خدم قطر في جهود تميّزها هو أن التصفيات النهائية لكأس العالم تجذب في الأوان نفسه وللمكان ذاته كل وسائل الإعلام من شتى أنحاء الأرض، وبالتالي من الطبيعي أن تكون استضافة هذا الحدث محط اهتمام مليارات البشر في فترة زمنية محددة.
إلا أن هذا الانبهار العالمي المؤقت بقطر وإنجازاتها، يضاعف مسؤولية القيمين عليها لاستتباع نقطة الانطلاق بمسار متكامل ومستمر من الإنجازات والاستضافات التي يمكنها الاستفادة من الحصيلة اللافتة لورشة التطوير الكبرى والمصاريف الهائلة التي تطلّبها إنجاز البنية التحتية وشبكة الطرق والمنشآت الرياضية والفندقية اللازمة لاستضافة أضخم حدث رياضي عالمي.
وهذا ما يذكّرني بخطاب رئيس الوزراء اللبناني الشهيد رفيق الحريري الذي ألقاه عند إعادة افتتاح «مدينة كميل شمعون الرياضية» في بيروت، حيث ركّز بإصرار لافت على أن الأصعب من الدَّيْن هو خدمته والأهم من إعادة إعمار هو المحافظة على المنشآت واستمرار صيانتها وحسن استخدامها فيما بعد. شاءت الروح الرياضية أم أبت، تتقاطع الرياضة مع السياسة، ولعلّ التعامل الغربي مع روسيا على أثر حربها على أوكرانيا أكبر دليل على ذلك، فتعليق عضوية الاتحاد الروسي لكرة القدم في الاتحاد الدولي للعبة واستبعاد مشاركة المنتخب الروسي في تصفيات بطولة كأس العالم عام 2022 تؤكد أن الرياضة الأكثر شعبية في العالم هي ورقة مؤثرة في لعبة الأمم. فكم استخدمت شعبية اللعبة لإلهاء الطبقات الفقيرة عن تصرفات الأنظمة الشمولية أو الفاسدة، وكم استدرجت من خلالها الأجيال المتعاقبة الى تأييد حماسي لفكر معين أو شخصية مؤثرة، وكم كانت ملاعب هذه الرياضة ميادين لإلهاب مشاعر التأييد والدعم لمسارات سياسية أو تنموية أو حتى مصيرية، فلا ضرر ولا خجل في أن تكون الرياضة أداة ايجابية بيد السياسة القطرية لقيادة شعبها ومن ثم المنطقة الى مزيد من التطور والتقدم والتنمية.
بهذا المسار التنموي المميز، تصبح قطر من بواكير قطرات الغيث الذي يسقي صحراء طموحاتنا ويروي تعطّشنا للإنجاز، ويتكرس إنجازها كمحفّز لغيرها من الدول والعواصم الشقيقة والصديقة لأن تبحث عن هوية تنموية لكل منها، تستفيد لتثبيتها من مواردها الطبيعية والبشرية، وتستعد من خلالها لمجابهة تحديات المستقبل عند نضوب النفط أو تقلب الأحوال، وتلبية طموحات الأجيال ومتطلباتها. النجاح يبدأ بإيمان بالذات، ويتبلور بقرار يحفّز الطاقات، ويستمر بحسن استخدام الإمكانات، كما أن المضي قدماً على سكة التقدم من شأنه أن يبقي في الخلف البعيد جميع المتربصين أو المتشبّثين بمقاعد الثرثرة أو النقد أو الجهل، وصفير قطار التنمية من شأنه أن يطغى على كل الأصوات الحاقدة والنافرة، وأن يصمّ الآذان عن كل ضجيج هامشي