رأي

أول اتفاقية مائية منذ عقود: العراق تحت رحمة تركيا

كتب فقار فاضل, في الاخبار:

اتفاق مائي يمنح أنقرة إدارة الموارد العراقية لخمس سنوات يثير غضباً شعبياً واسعاً، مع تصاعد الجفاف ودعوات إلى مقاطعة الانتخابات والمنتجات التركية.

في مشهد غير مسبوق منذ عقود، بدا نهر دجلة في قلب بغداد، أخيراً، أشبه بساقية ضحلة تحاصرها جزر طينية، بينما يواصل نهر الفرات انحساره في المحافظات الغربية. مشهدٌ يجسّد أزمة المياه في العراق، والتي بلغت ذروتها هذا الخريف، وسط تصاعد الغضب الشعبي، ودعوات إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية التي ستجري في الـ11 الشهر الجاري، ومعها المنتجات التركية، في ظلّ عجز الحكومة عن إيجاد حلول واقعية لأزمة تُعدّ الأخطر في تاريخ البلاد الحديث.

وفي هذا التوقيت الحرج، زار وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، بغداد أمس، حيث وقّع مع نظيره العراقي، فؤاد حسين، بحضور رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، أول اتفاقية مائية تنفيذية بين البلدين منذ عقود، وُصفت بأنها “وثيقة تاريخية”، لكنها لم تخفّف من تشاؤم الشارع العراقي الذي يرى أن “الماء بات بيد أنقرة لا بغداد”. وأعلن الجانب التركي، في خلال الزيارة، إطلاق مليار متر مكعب من المياه لصالح العراق خلال الأيام المقبلة، على أن تُدار الإطلاقات والبنى التحتية المائية بإشراف مباشر من أنقرة لمدة 5 سنوات.

وقال مصدر مطّلع، في تصريح إلى “الأخبار”، إن “الاتفاقية تتضمّن منح تركيا صلاحية فنية وإدارية في إدارة الإطلاقات المائية، مقابل إسقاط ديون مستحقّة ورفع سقف التبادل التجاري إلى 30 مليار دولار سنوياً”، مضيفاً أن “الإدارة التركية ستتولى مسؤولية السدود والخزانات والبنى التحتية المائية خلال فترة التنفيذ”.
ووصف السوداني، من جهته، الاتفاق بأنه “أحد الحلول المستدامة لأزمة المياه”، فيما ادّعى الوزير التركي أن “الأجيال القادمة لن تعاني بعد اليوم من مشاكل المياه”.

لكنّ مراقبين في بغداد اعتبروا أن “الاتفاق يمنح تركيا اليد العليا في إدارة شريان الحياة العراقي”، وسط مخاوف من رهن القرار المائي بالملفَّين الاقتصادي والسياسي. ويأتي ذلك في وقت يتصاعد فيه الغضب الشعبي في المدن العراقية من جراء الجفاف الذي طاول دجلة والفرات والأهوار الجنوبية.

ودعا ناشطون إلى مقاطعة الانتخابات ومقاطعة المنتجات التركية احتجاجاً على “تواطؤ الطبقة السياسية مع أنقرة”. وكتبوا على منصة “إكس” أن “صور السياسيين تملأ الشوارع، فيما نهر دجلة يحتضر تحت أنظارهم”.
كما شهدت مواقع التواصل الاجتماعي تداولاً واسعاً لمقاطع فيديو تُظهر جفاف مساحات واسعة من النهرين، وانكشاف قيعانهما في بعض المناطق، حتى صار بالإمكان عبورهما سيراً على الأقدام.

دعوات إلى مقاطعة الانتخابات المقبلة والمُنتجات التركية

وفي محافظة ميسان، جفّت الأهوار بنسبة تتجاوز 90%، وفق ما أكّد مدير زراعة المحافظة، ماجد الساعدي، الذي حذّر من “كارثة اجتماعية تطاول آلاف العائلات التي تعيش على تربية الجواميس والزراعة”. أمّا في واسط، فقد وُصفت الخطة الزراعية الشتوية بأنها “في حالة تراجع خطير”، بعد توقّف الإطلاقات القادمة من دجلة بنسبة تفوق 40%.

وفي تعليقها على ذلك، وصفت النائبة في لجنة الزراعة والمياه النيابية، ابتسام الهلالي، في حديث إلى “الأخبار”، أداء الجهات المعنية في ملف المياه بـ”المرتبك والضعيف”، مؤكّدة أن “المفاوضات مع تركيا وإيران لم ترتقِ إلى مستوى الخطر الذي يهدّد حياة العراقيين”. وقالت: “نحن أمام أزمة وجود، لا أزمة موسمية. الأهوار تموت، والمزارعون يهاجرون، والحكومة ما زالت تراهن على وعود دبلوماسية لم تتحقّق منذ عقدين”. وأضافت أن “تقصير الدولة في التفاوض وغياب الرؤية الموحّدة جعلا العراق تابعاً مائياً لجيرانه، فيما لا تزال بغداد تفتقر إلى خطة طوارئ وطنية لإدارة المياه خلال السنوات العشر المقبلة”.

أمّا الخبير البيئي، أحمد الربيعي، فأكّد، لـ”الأخبار”، أن العراق “يفقد سنوياً نحو 10% من مخزونه المائي”، محذّراً من أن “سد الموصل قد يجفّ بنهاية شهر تشرين الثاني الجاري إذا لم تُرفع الإطلاقات التركية”. ولفت إلى أن “الواردات الحالية من تركيا لا تتجاوز 130 متراً مكعّباً في الثانية، في حين أن المعدّل الطبيعي يجب ألّا يقلّ عن 350 متراً مكعّباً”، مضيفاً أن “العراق فقد خلال العقود الثلاثة الماضية أكثر من 30% من أراضيه الزراعية المنتجة، بحسب تقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي”.

وفي الإطار نفسه، رأى السياسي بكر البغدادي، في تصريح إلى “الأخبار”، أن “ملف المياه تحوّل إلى ورقة ضغط سياسية بيد تركيا”، متّهماً بعض القوى العراقية بـ”التواطؤ في رهن القرار المائي مقابل امتيازات اقتصادية وتجارية”. وأكّد أن “الاتفاق الحالي يمنح تركيا تفوّقاً استراتيجياً خطيراً، خصوصاً أنها ستكون المشرفة على إدارة السدود العراقية لسنوات”، معتبراً أن “المطلوب هو تحرّك وطني عاجل لاستعادة السيادة المائية، وتدويل الملف في الأمم المتحدة إن لزم الأمر”.

ويُجمع خبراء على أن أزمة الجفاف الحالية هي الأشد منذ 80 عاماً؛ إذ إن الأهوار الجنوبية، التي أدرجتها اليونسكو عام 2016 على لائحة التراث العالمي، باتت مهدّدة بالخروج منها، بعد أن انخفضت مستويات المياه فيها إلى أقل من 10% من معدّلاتها الطبيعية. كما أن نحو 60% من سكان محافظتي ميسان وذي قار، يُقدَّر بأنهم يعتمدون على الأنشطة الزراعية والرعوية، باتوا في دائرة الخطر المباشر، وهو ما يشمل أكثر من نصف مليون عائلة.

ومع كل هذا، يرى مراقبون أن الحكومة العراقية تُركّز أكثر على الجانب السياسي للاتفاق مع أنقرة، بينما تبقى الملفات الفنية والبيئية على الهامش، وهو ما وصفته لجنة الزراعة النيابية بـ”الكسل والتراخي”.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى