أولويات مختلفة داخل حلف “الناتو”
هناك أزمات قومية بين بعض أعضائه لا سيما بين تركيا واليونان في أزمة قبرص
كتب وليد فارس, في “اندبندنت عربية”:
كل ذلك يشير إلى أن حلف “الناتو” بات قريباً من إعادة تقييم إلا أن ذلك لا بد أن ينتظر نتائج الانتخابات الأميركية. فما الاحتمالات المتوقعة؟
بات واضحاً أن هناك تعددية للأولويات القومية الاستراتيجية داخل حلف “الناتو” تظهر أخيراً عبر مجموعة أولويات لدى الحكومات العضوة في الحلف. فقد تبين أنه بغض النظر عن وجود أهداف استراتيجية شاملة بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، إذ يبدو أن هناك بعض المواقف القومية لعدد من الدول التابعة للتحالف الغربي وبخاصة في أوروبا، حيث كل دولة لها أولويات خاصة بها تتماشى مع الحلف الأطلسي بصورة عامة ولكنها لا تتماشى مع ما تحاول قيادة الحلف الأطلسي إرساءه، وبعد ذلك العمل في ما يتعلق بأمن الدول. وقد كتبنا في الماضي عن خيارات “الناتو” لمصالح الأمن القومي لدوله ولكننا وإذ نقترب إلى حالات التصعيد الأعلى المتعلق بالحرب في أوكرانيا والمواجهة مع النظام الخميني في إيران يبدأ “الناتو” بإظهار مواقف مختلفة سنلخص معظم حالاتها.
لقد انطلق التحالف الأطلسي خلال الخمسينيات أساساً لمواجهة الاتحاد السوفياتي داخل أوروبا واحتلاله تقريباً النصف الشرقي منها وتقسيم ألمانيا الخارجة من النازية إلى منطقتين شرقاً وغرباً، وأدى ذلك إلى قيام دولتين ألمانيا الشرقية التابعة للاتحاد السوفياتي وألمانيا الغربية الواقعة تحت النفوذ الغربي الأميركي – الفرنسي – البريطاني.
وقد قرر “الناتو” وقتها إدخال ألمانيا الغربية الموحدة في التحالف، وأدخل الاتحاد السوفياتي ألمانيا الشرقية في إطار حلف “وارسو”. وخلال الحرب الباردة من الخمسينيات إلى عام 1990 كان الهدف الأعلى لتحالف “الناتو” أن يركز على مواجهة تقدم الاتحاد السوفياتي على طول الخطوط الفاصلة بين الشرق والغرب في القارة العجوز.
ولم تكن هناك أية استراتيجيات كبرى تتبعها الدول الأعضاء من بريطانيا إلى تركيا، ومن ألمانيا إلى إيطاليا غير الاستراتيجية الموحدة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية وتعمل على تنفيذها كل دول الأعضاء في الحلف، وهي التركيز على مواجهة الاتحاد السوفياتي في أوروبا بصورة عامة ومساعدة الذين يواجهون الكتلة الشيوعية في أماكن أخرى.
وعلى رغم بعض الفوارق في إدارة اتجاهات “الناتو” كالوضع الخاص للقيادة الفرنسية لا سيما تحت رئاسة شارل ديغول التي قررت أن تكون شبه مستقلة في قراراتها الحربية، فإنها كانت بصورة عامة متوازية مع خط “الناتو” العام لمواجهة الكتلة السوفياتية.
وكانت هناك أزمات قومية بين بعض أعضاء “الناتو” لا سيما بين تركيا واليونان في أزمة قبرص. ولكن بغض النظر عن ذلك عملت واشنطن ولندن على إبقاء كل العواصم الأوروبية مركزة على خصم واحد وهو الكرملين. وكانت لـ”الناتو” تحالفات خارج الغرب من الذين واجهوا التوسع السوفياتي في عدد من مناطق العالم بما فيها في الشرق الأوسط حيث دعم التحالف الأطلسي شركاء أساسيين في السعودية والأردن ولبنان وغيرها في مواجهة النفوذ الشيوعي والاشتراكي بمن فيهم حلفاء العرب وقتها وبخاصة جمال عبدالناصر و”البعث” في سوريا والعراق وليبيا تحت راية معمر القذافي والجزائر إلى حد ما.
ووصل خط الدفاع الغربي إلى الهند الصينية وتايلاند بعد سقوط فيتنام الجنوبية، ووصل هذا الخط الأطلسي ليتحول إلى خط في المحيط الهادئ من أستراليا إلى الفيليبين فتايوان وكوريا الجنوبية واليابان بمواجهة الأنظمة الشيوعية.
وامتدت منطقة المواجهة إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية، إلا أن سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة في أوروبا فسح المجال أمام وقوف “الناتو” على قدميه، فحاول التوسع إلى شرق أوروبا واستمرت كتلة الحلف.
وبقراره باستيعاب – تقريباً – كل دول أوروبا الشرقية من بولندا إلى ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا فبلغاريا ورومانيا، حتى استوعب الحلف في الأقل ثلاث جمهوريات سوفياتية سابقة وضمها وهي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وأنجز ذلك في التسعينيات حتى وصول الرئيس فلاديمير بوتين خلال بداية عام 2002.
وبعد عملية الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، استمر الحلف بالتوسع ومحاولة محاصرة روسيا الاتحادية مما أدى إلى تغيير في منهج “الناتو” الذي كان يركز على الاتحاد السوفياتي وليس على الدولة القومية الروسية. وكانت قيادة بوريس يلتسين مهتمة جداً في إيجاد علاقات استراتيجية مع “الناتو”، إلا أن اليسار في الغرب الذي تأثر بسقوط الاتحاد السوفياتي وسقوط الشيوعيين من الحكم في موسكو، خصوصاً خلال أعوام بيل كلينتون عارضوا خطة يلتسين. أضف إلى ذلك أن قوى سياسية عديدة داخل أوروبا الشرقية ولها طارات (هل المقصود هو ’ثارات‘ من الثأر؟) على روسيا في الماضي أيضاً، ضغطت على الغرب لكيلا يستوعب روسيا في “الناتو” وكان هذا خطأً تاريخياً، وأدى ذلك إلى وصول الفئات العسكرية والأيديولوجية القومية في روسيا إلى السلطة مما غير منهاج موسكو ودفع الكرملين للعودة إلى المرحلة الماضية، وهي التوازن الاستراتيجي وتوازن الرعب مع الغرب. وقد أدى تحرك إدارة باراك أوباما باتجاه شراكة مع الإسلاميين في منطقة الشرق الأوسط إلى تعزيز قناعة القيادة الروسية بالابتعاد من الغرب. وحاول أوباما خلال فترة أولى من رئاسته بين عامي 2009 و2012 أن يبنى علاقة جديدة بين واشنطن وموسكو إلا أن “الربيع العربي” الذي استفاد من فترة أوباما أوقع صدمة داخل روسيا فأصبحت مكفهرة من الوجود الأميركي في المنطقة التي تتجسد بنظر موسكو عبر “الإخوان المسلمين”، وبدأ التباعد التدريجي بين روسيا وأميركا من جديد وسيطرت القوات الروسية على شبه جزيرة القرم عام 2014 وبدأ التصعيد بين “الناتو” وروسيا بعهد أوباما الثاني.
وخلال فترة دونالد ترمب عاد “الحزم” إلى السياسة الأميركية وتجمد الانفلاش الروسي بتغيير سياسة أوباما أربعة أعوام، ومع سقوط ترمب عام 2020 وعودة سياسة أوباما مع جو بايدن، أين موسكو؟ تردت العلاقات بين الجبارين وعاد “الناتو” ليعبئ قدراته في شرق أوروبا، فوثب الرئيس بوتين للسيطرة على المناطق الناطقة بالروسية داخل أوكرانيا وتفجرت حرب لا تزال تدور رحاها حتى الآن، وبات “الناتو” ولو كان بصورة عامة يحاول محاصرة روسيا وعزلها يواجه تطورات داخل المنظمة تشير إلى تقسيم الاتجاهات في أوروبا حسب الدول.
الدول الغربية الرأسمالية الكبرى من بريطانيا وفرنسا وألمانيا تريد مواجهة روسيا ولكن من دون الوصول إلى حرب مباشرة معها. ودول المتوسط الأوروبية من إسبانيا إلى إيطاليا واليونان ومالطا وإلى حد ما فرنسا،= تركز على ما سمي “الجنوب الكبير” أي المنطقة العربية الشرق – أوسطية الإسلامية خوفاً من موجات الهجرة المكثفة إلى الأجنحة الجنوبية للقارة الأوروبية، وهذه الدول ليست فعلاً مهتمة مصيرياً بحرب أوكرانيا بصورة مباشرة لكنها تعطي الأولوية لإيقاف سفن المهاجرين اللا شرعية إلى الداخل الوطني والأوروبي.
دول البلطيق وأوروبا الشرقية عملياً بقيادة بولندا تركز على الانفلاش الروسي ولا يهمها كثيراً تحدي الهجرة أو الإرهاب الإسلامي الآتي من الجنوب، فهذه الدول متعلقة بهويتها القومية وتميل إلى اليمين بصورة عامة وإن كان فيها بعض الحكومات الليبرالية أحياناً اهتمامها أن تقاوم وتواجه ما تسميه “الاجتياح الروسي لأوروبا”، وتخشى رومانيا ومولدوفا التقدم الروسي، أما النمسا وسلوفاكيا وكرواتيا وإلى حد ما بلغاريا فهي قلقة من المهاجرين غير الشرعيين.
إن المواقف الأوروبية ولو كانت بصورة عامة تلتحق بالبيرق الأطلسي إلا أنها في أولوياتها تختلف إلى أين تتجه جهودها لمواجهة الأخطار القومية المباشرة، كما أن هناك فوارق بين مواقف الحكومات من ناحية وموقف الشعوب من ناحية أخرى. فحكومات أوروبا الغربية قلقة من الخطر الروسي لكنها لا تريد الدخول في مواجهة عسكرية مع موسكو، بينما أكثرية الشعوب الأوروبية الغربية قلقة من تزايد المهاجرين غير الشرعيين ومن الأعمال المتطرفة والإرهابية التي باتت تنتشر في تلك الدول، أما في أوروبا الشرقية فهناك من يريد مواجهة الروس كدول البلطيق بينما هناك دول كالمجر والتشيك ليست مستعدة لأن تدخل في هذا المعترك.
من هنا نرى أن الاستراتيجيات الأساس لـ”الناتو” باتت تتلقى تحديات من بعض أعضاء الحلف وتتطور على محاور عدة إلى جانب المحور التقليدي الأساس في بروكسل، حيث ينظر إلى “الخطر الروسي” كالخطر الداهم الأكبر، بينما هناك دول في أوروبا كالمجر وفرنسا ودول أخرى تريد الانسحاب مما يسمى “الجبهة الشرقية” وإعادة الاستقرار مع روسيا، كما أن على أطراف أوروبا هناك دول لها مشكلات.
إن كل ذلك يشير إلى أن حلف “الناتو” بات قريباً من إعادة تقييم إلا أن ذلك لا بد أن ينتظر نتائج الانتخابات الأميركية، فإذا استمرت العقيدة “الأوبامية” عبر إدارة تقودها كامالا هاريس فذلك سيدفع بأوروبا الأطلسية إلى مواجهة متصاعدة مع روسيا وإلى تردي الأحوال في ما يتعلق بالمتوسط، وإذا أتى دونالد ترمب رئيساً فسيعمل على تخفيف التوترات بين “الأطلسي” وروسيا وسيسعى إلى حل مشكلات الهجرة عبر المتوسط عبر برامج تعاون مع الدول العربية.
وفي نهاية المطاف، الحلف الأطلسي سيتغير بطريقة أو أخرى، بين هذا العام وبداية العام المقبل.