رأي

أوكرانيا.. منظورات أوروبية وأمريكية متباينة

كتب محمد خالد الأزعر, في البيان:

على وقع الحرب مع روسيا اكتشف الأوكرانيون أنهم ليسوا أحراراً تماماً في تعيين خياراتهم أو أنماط تحالفاتهم وشراكاتهم الخارجية الإقليمية القارية بالذات، اكتشفوا أن تكييفات وتقديرات الجار الروسي لأمنه القومي على تخومهم الشرقية تمثل محدداً صارماً لخياراتهم لا يصح لهم التغاضي عنه دون دفع أثمان باهظة، اكتشفوا أيضاً كم أنهم بحاجة للظهير الأوروبي والغربي عموماً لتعزيز قدراتهم الشاملة في وجه هذا الجار القوي الرابض والمقيم الأزلي على حدودهم..
وللوهلة الأولى ظنت كييف أن لهيب الحرب وما اعتبرته تنمراً روسياً صارخاً بحقها وتهديداً حيوياً لأمن هذا الظهير، سوف يعجل بردفه لها بكل أنواع الدعم، والأهم هو استقبالها عضواً فاعلاً في المنظومتين الغربيتين الأكبر إقليمياً ودولياً، الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

هذا ما يمكن فهمه من القراءة العامة لخطاب القادة الأوكرانيين، ولاسيما الرئيس فولوديمير زيلينسكي، بيد أن ما حدث بالفعل هو أن مجريات الحرب وتفاعلاتها كانت فيما يبدو من أهم معطيات التمهل وليس التسرع أوروبياً وأطلسياً في التعامل مع الطموح الأوكراني.
فبوقوع الحرب لم يعد تمدد الصدام إلى مديات مدمرة لأبعد الحدود مع الدب الروسي، إذا ما انخرطت أوكرانيا كلياً في المنظومتين الغربيتين إياهما، مجرد احتمال وإنما بات حقيقة، يمكن أن تراها بوضوح في ضوء ردود الأفعال الروسية التي لم تخل من التلويح لغير مرة بعدم استبعاد اللجوء إلى الأسلحة غير التقليدية.

حسابات الإسناد الدقيقة البعيدة عن التهور فرضت على عالم الغرب عامة، بشقيه الأوروبي والأمريكي، أخذ مخاوف روسيا واعتباراتها الأمنية وخطوطها الحمراء بعين الاعتبار، غير أنه حتى في إطار هذه الحسابات يمكن ملاحظة غلبة العقلانية والتروي، وقد نقول الفتور أحياناً تجاه المطالب الأوكرانية على الضفة الأمريكية، قياساً بالاندفاع والحماس الأوروبي.
تتجلى مؤشرات تعزيز هذه القناعة عند تأمل الاختلافات النسبية في مواقف الطرفين، فالأوروبيون مثلاً لا يمانعون في فتح خزائنهم لمنح كييف هبات مالية أو قروضاً ضخمة ميسرة، ويذهبون إلى إخضاع موسكو لأقصى قدر من العقوبات متعددة الأنماط، ويضغطون ملياً لاستخدام الأصول الروسية المجمدة وليس عوائدها فقط لصالح جبهة كييف.
ولا يحجبون عنها كل ما تيسر لهم من الأسلحة والعتاد، وصولاً إلى التوسط لدى واشنطن لإمداد هذه الجبهة بصواريخ توماهوك المتطورة التي تطال مدياتها أهدافاً في عمق الأراضي الروسية، هذا علاوة على فتح شهية أوكرانيا للالتحاق بركبهم اتحادهم بعد توفر شروط معينة.

أين هذه الأريحية والمقاربة الرقيقة والأبواب المفتوحة التي جعلت البعض يصف ما يدور في أوكرانيا بأنها حرب الأوروبيين، من الخطوات الأمريكية الأكثر تحفظاً إزاء كييف وتفهماً للسياسة والأهداف الروسية؟
نود القول بأن واشنطن وبخاصة في ولاية ترامب الرئاسية الثانية اتخذت من السياسات العامة والمواقف العملية، ما يجعلها بعيدة بمسافة عن الشركاء الأوروبيين.

يمكن تلمس ذلك بسهولة عند مقارنة السخاء الأوروبي المومأ لبعض مظاهره بالكوابح والضوابط الأمريكية بالخصوص. واشنطن على خلاف الأوروبيين لم تفتح خزائنها المالية ولا ترسانتها التسليحية بغير حساب، ولا وعدت بإفساح مقعد لكييف في الناتو، والأهم أنها لم تلتزم بالسكك والمدارات الحقوقية، العاطفة على والمتعاطفة مع الخطاب الأوكراني.

لغير مرة وفي غير مناسبة، صرح ترامب بما يوحي بتسامحه مع مطلبي روسيا: الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم منذ العام 2014، والإقرار بسيطرة روسيا على مناطق أوكرانية أخرى بحكم الأمر الواقع.
وإذا كان الرئيس الأمريكي قد عاد إلى رفض الاستجابة لهذين المطلبين كشرط لوقف القتال، إلا أن تذبذبه في هذا السياق، يتناقض كلياً مع الاصطفاف الأوروبي الحاسم وراء مبدأ منع ضم الأراضي بالقوة.

من الواضح أن الأوروبيين يتخوفون من تحول انتهاك هذا المبدأ في الحالة الأوكرانية، إلى نموذج يتكرر مع خرائطهم الإقليمية المستقرة.. هذا في حين يبدو موقف ترامب أكثر اتساقاً مع أفكار ورؤى سبق له أن طرحها بأحاديثه عن ضم كندا وغرينلاند وبنما..
بما ينم عن استخفافه بقضية السيادة القومية على النحو المعلوم في العلاقات الدولية.

في كل حال يصعب التكهن بالكيفية التي يمكن بها التوفيق بين مطالب الأطراف الأساسية المنغمسة، بمقادير مختلفة في المعمعة الأوكرانية، الروس والأوكرانيين والأوروبيين والولايات المتحدة..
لكن المتيقن منه في هذا الأمر حتى الآن هو أن طرفاً من هؤلاء ربما لن يبلغ مراداته كلها، وأن خريطة أوكرانيا الجيوسياسية قد لا تعود إلى ما كانت عليه قبل بداية الحرب في فبراير 2022.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى