رأي

أوروبا والتحرر من التبعية

كتب يونس السيد, في صحيفة الخليج:

أثارت الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب على معظم دول العالم، إلى جانب الطريقة التي تتعامل بها واشنطن مع الأزمة الأوكرانية، والعودة التدريجية للعلاقات الأمريكية الروسية إلى طبيعتها، توتراً متزايداً في العلاقات بين ضفتي الأطلسي، إلى الحد الذي دفع القارة الأوروبية للبحث مجدداً عن استقلاليتها وكيفية تحقيق أمنها الذاتي بمعزل عن الولايات المتحدة.

هذه الصحوة الأوروبية بدأت تأخذ منحى جدياً بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وبعدما استفاقت دول القارة لتجد نفسها أمام معضلة استراتيجية غير مسبوقة، على المستويين الاقتصادي والأمني، جراء التبعية شبه المطلقة للولايات المتحدة. وأصبح الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة محل تساؤل جدّي بين العواصم الأوروبية في ظل سياسات ترامب المتقلبة تجاه حلفائه التقليديين.
والواقع أن فكرة الاستقلالية الأوروبية ليست وليدة اليوم، وإنما هي فكرة قديمة جديدة بدأت تتبلور أكثر فأكثر مع ولاية ترامب الأولى، حين هدد بانسحاب الولايات المتحدة من حلف «الناتو» إذا لم يرفع أعضاء الحلف مساهماتهم في ميزانية الحلف إلى 2 أو 3 في المئة من الناتج القومي لبلدانهم. وهو ما أدى إلى بلبلة في صفوف الحلف ودفع الأوروبيين إلى إحياء الحديث عن جيش أوروبي موحد أو قوة أوروبية موحدة لتأمين الدفاع الذاتي عن القارة، وقد تصدرت فرنسا وألمانيا هذا الحراك آنذاك، لكن الانقسام الأوروبي واعتماد معظم دول القارة المفرط على الحماية الأمريكية، حال دون ذلك.
غير أن هذه الفكرة أصبحت أكثر إلحاحاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية وشعور الدول الأوروبية بالعجز عن توفير الدعم العسكري واللوجستي اللازم من أسلحة وذخائر لأوكرانيا بمعزل عن الولايات المتحدة.
صحيح أن الدول الأوروبية كانت قد تنفست الصعداء مع رحيل إدارة ترامب الأولى، ثم تحمل إدارة بايدن العبء الأكبر في توفير كل وسائل الدعم لأوكرانيا، ما أسهم في تغطية العجز الأوروبي، إلا أن ذلك عمّق من تبعية القارة للولايات المتحدة، وأفقدها الكثير من استقلاليتها السياسية والأمنية والاقتصادية. ومع عودة ترامب الثانية إلى البيت الأبيض انقلبت كل المعطيات رأساً على عقب، حيث وجدت أوروبا نفسها أمام مفاوضات أمريكية روسية لإنهاء الحرب الأوكرانية بمعزل عن المصالح الأوروبية. وفي خضم حرب تجارية تشمل العالم بأسره، لم تستثن حتى الحلفاء، ما اضطرها بالتالي إلى الرد بفرض حزمة رسوم على الواردات الأمريكية، وإن تم تجميدها بعد تعليق واشنطن الرسوم الجمركية لمدة 90 يوماً. هذا التحول دفع الأوروبيين مجدداً للبحث عن كيفية الاستغناء عن الولايات المتحدة وإقامة صنعات دفاعية متطورة، وقد وضعت الخطط اللازمة لذلك، لكنها تجد صعوبة في تنفيذها، جراء الانقسام، واعتماد معظم الجيوش الأوروبية، باستثناء فرنسا، على السلاح الأمريكي.
فهل ينجح الأوروبيون في تخطي هذه العقبات وبناء قواهم الذاتية، وبالتالي إثبات أنفسهم كقوة فاعلة في الساحة الدولية، أم أنهم سيضطرون للرضوخ للإملاءات الأمريكية والعودة إلى سلوك التبعية؟

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى