رأي

أوروبا.. واقع دورها العالمي وحدوده

كتب عمرو حمزاوي, في “الشروق”:

‎من يبحث اليوم فى أوضاع منطقتنا وأحوال القوى العظمى المتنافسة على النفوذ والمصالح بين الخليج والمحيط، سيكتشف المحدودية البالغة للدور الراهن للدول الأوروبية التى بات همها الوحيد هو الحد من الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط.

‎وإذا كان استنفار بلدان الاتحاد الأوروبى لطاقاتها لمواجهة تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية يمثل سببا أساسيا للتراجع الأوروبى الراهن فى منطقتنا مثلما يشكل تعقد صراعات المنطقة منذ نشبت الحرب فى غزة ٢٠٢٣ سياقا طاردا للجهود الأوروبية، فإن ثمة أسبابا أخرى تستحق التسمية والتفسير.

‎فقد أسفر الابتعاد التدريجى للولايات المتحدة عن حلفائها التقليديين فى الخليج، وهم ولعقود طويلة حصلوا على ضماناتهم الأمنية وسلاحهم وتكنولوجيا استخراج وتكرير النفط والغاز الطبيعى ووارداتهم الصناعية والتكنولوجية من الجانب الأمريكى؛ أسفر عن دفعهم إلى البحث عن شراكات، بل وتحالفات بديلة، مع قوى كبرى أخرى كالصين وروسيا.

‎رتب الابتعاد الأمريكى عن الخليج، وكذلك تراجع اهتمام الولايات المتحدة بمجمل قضايا الشرق الأوسط، الحد من أدوار الدول الأوروبية التى اعتادت الاستفادة من نفوذ القوة العظمى ومن الضمانات الأمنية التى قدمتها ومن التجارة الحرة التى رعتها لتطوير علاقات واسعة مع بلدان المنطقة، دوما ما كانت فى مقدمتها إمدادات الطاقة إلى أوروبا وصادرات السلاح منها إلى بلدان المنطقة بالإضافة إلى الاهتمام بقضايا الأمن الإقليمى ومكافحة الإرهاب والحد من الهجرة غير الشرعية.

‎ضيق تراجع الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، إذا، من مساحات حركة الأوروبيين الذين اعتادوا أن ينشطوا دبلوماسيا وسياسيا حين تنشط حليفتهم على الجانب الآخر من المحيط الأطلسى. وها هم يستسلمون اليوم فى صمت لغياب الدور الأمريكى فى العراق بعد الانسحاب، وفى سوريا باستثناء مواجهة بقايا تنظيم داعش، وفى لبنان المتروك لفشل الدولة، وفى إسرائيل وفلسطين حيث لا شيء غير الحرب فى غزة والمزيد من التصعيد والاستيطان والتطرف والعنف فى الضفة الغربية والقدس والعجز الأمريكى عن الضغط على اليمين المتطرف فى إسرائيل، وفى ليبيا حيث لا حلول سياسية يجرى التفاوض عليها لإعادة بناء مؤسسات الدولة وضمان السلم الأهلى ولإخراج القوات الأجنبية ونزع سلاح الميليشيات. حتى فى الملفات التى نشط بها الأوروبيون، كحرب اليمن وإدارة الملف النووى الإيرانى، فلم تسفر جهودهم عن الشىء الكثير.

  • • •

‎تابع الأوروبيون تنامى الدور الصينى فى الشرق الأوسط فى قلق شديد، وفسروه استراتيجيا كخصم مباشر من نفوذ الغرب بشقيه الأمريكى والأوروبى مثلما باتت الدبلوماسيات الأوروبية تنظر إلى دور الصين فى إفريقيا (خاصة غربها) كعملية إزاحة طويلة المدى هدفها طرد أوروبا من القارة السمراء. غير أن خوف الأوروبيين من تنامى دور الصين فى الشرق الأوسط وعجزهم عن ممارسة النفوذ فى المنطقة فى ظل تراجع دور وأوراق الولايات المتحدة، فرض استسلامهم إلى قراءة صراعية لدور الصين. وتلك قراءة تصطنع من الصين «الاتحاد السوفييتى الجديد» فى منطقتنا، وتدفع باتجاه محاصرة دورها على الرغم من أن وساطتها بين إيران والسعودية قد ترتب سلاما دائما فى اليمن وتخفض من مناسيب الصراع الإقليمى فى الخليج وعموم المنطقة، وهو ما يتلاقى مع ما تريده أوروبا. والحقيقة أن خوف الأوروبيين يعود إلى توجسهم من استحواذ الصين على ما تبقى لهم من حصص فى التجارة مع الخليج وعموم الشرق الأوسط، ومن تنامى صادرات السلاح الصينى على نحو يفقد أوروبا، خاصة بريطانيا وفرنسا وألمانيا، سوقا هامة لتصدير أسلحتهم.

‎راقب الأوروبيون خلال السنوات الماضية كيف أصبحت الصين الشريك التجارى الأول لبلدان مجلس التعاون الخليجى، وتشعبت علاقات الصين والخليج لتتجاوز إمدادات الطاقة والمنتجات الصناعية إلى التعاون فى مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومشروعات البنية التحتية والطاقة المتجددة وصادرات السلاح. على سبيل المثال، تضاعفت حصة صادرات السلاح الصينية بين ٢٠١٨ و٢٠٢٢ بنسبة ٢٠٠ بالمائة وصارت تستحوذ على ٥ بالمائة من سوق السلاح فى الشرق الأوسط. ويؤشر ذلك بوضوح على تنامى الدور العسكرى والأمنى الصينى.

‎تابع الأوروبيون ذلك، مثلما تابعوا إكثار الإدارات الأمريكية المتعاقبة من الحديث عن الانسحاب من الشرق الأوسط والتوجه نحو آسيا حيث الفوائد «العظيمة» اقتصاديا وتجاريا وتكنولوجيا وحيث الميدان الأوسع للمنافسة الأمريكية ــ الصينية على قيادة النظام العالمى. وفى مقابل مقولات الانسحاب الأمريكية، ركزت الصين على تقوية علاقاتها مع كل بلدان الشرق الأوسط وبمعزل تام عن تناقضات المصالح والسياسات فيما بينها. طورت الصين شراكة استراتيجية مع إيران بها تعاون اقتصادى وتجارى وعسكرى ضخم، ووسعت تعاونها مع السعودية إلى الحد الذى صارت معه الشركات (الحكومية) الصينية من أهم موردى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبنية التحتية لمشروعات رؤية ٢٠٣٠، ورفعت على نحو غير مسبوق من مستويات استثماراتها الاقتصادية واستثمارات البنية التحتية فى مصر، وحافظت على علاقاتها الجيدة مع إسرائيل التى تتشارك معها مجالات البحث العلمى والتطوير التكنولوجى ومشروعات الطاقة المتجددة. ومكنت العلاقات الوطيدة مع إيران والسعودية، وعلى الرغم من تناقضات المصالح والسياسات بين البلدين فيما خص أمن الخليج وفى اليمن، الصين من الوساطة الناجحة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما واعتماد مبدأ عدم التدخل فى شئون الغير كأساس للأمن الإقليمى والشروع فى مفاوضات سلام دائم فى اليمن.

‎نجحت الصين أيضا بعلاقاتها الجيدة مع كافة بلدان الشرق الأوسط فى تنشيط العمل الدبلوماسى متعدد الأطراف على النحو الذى أسفر مؤخرا عن انضمام مصر والسعودية والإمارات وإيران كدول كاملة العضوية فى تجمع «بريكس» ونتج عنه قبل ذلك مؤتمرات قمة متتالية بين الصين وبين أطراف شرق أوسطية متعددة.

  • • •

‎الحقيقة أيضا أن خوف الأوروبيين من ضياع نفوذ الغرب الأمريكى والأوروبى وصعود الصين له سياقات عالمية لا يمكن إنكارها. وهنا الأمر الثالث الذى يتعين تناوله بالتفسير.

‎فى خطاب ألقته العام الماضى، طالبت السيدة أورسولا فون دير لاين، رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبى بضرورة صياغة سياسة أوروبية موحدة تجاه الصين. وحددت أهدافها فى استعادة التوازن الغائب عن العلاقات الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية مع العملاق الآسيوى، حماية الاتحاد الأوروبى (خاصة بلدانه الصغيرة) من الوقوع فى فخ التبعية الاقتصادية والتجارية للصين. وقد سيطر على خطاب فون دير لاين الخوف من ضغوط صينية محتملة على الاتحاد الذى تستورد بلدانه الكثير من العملاق الآسيوى والذى قد يتعرض بفعل هذه الضغوط لما يشبه الابتزاز الروسى الموظف لإمدادات الغاز الطبيعى والبترول كوسيلة للضغط على الأوروبيين بهدف التأثير على قراراتهم فى السياسة الخارجية.

‎ولمواجهة الصين، أكدت رئيسة المفوضية على تثبيت دعائم التحالف الاستراتيجى مع الولايات المتحدة لكى يتمكن الغرب من تحجيم الخطر الذى ينتج عن علاقات اقتصادية وتجارية واستثمارية ضخمة ومتشعبة مع الصين. ولذلك تبدو أوروبا وكأنها تسارع الخطى للالتحاق بالولايات المتحدة فى التعامل مع الصين من داخل خانات حرب باردة تستهدف أمريكيا إضعاف الصين وأوروبيا تجنب الوقوع فى فخ التبعية لتكنولوجيتها وصادراتها واستثماراتها.

‎أما فيما خص روسيا، فالتنازعات والتناقضات الأوروبية ــ الأوروبية تحول دون وجود خط سياسى واضح وترتب دعما عسكريا وماليا مستمرا من قبل البعض لأوكرانيا، وتحفظا أو امتناعا من قبل البعض الآخر.

  • • •

‎ليس فى تبعية الأوروبيين للسياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وتأثرهم بحالها، صعودا وهبوطا، سوى تعبير استراتيجى عن حال القارة العجوز فى داخلها وفى كافة أقاليم العالم الواقعة خارجها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى