رأي

أوروبا.. تشاؤم اليمين واليسار وأجواء نهاية التاريخ

كتب عمرو حمزاوي في صحيفة الشروق.

لا تقتصر أسباب وتداعيات الأزمة السياسية والمجتمعية الكبرى التى تمر بها أوروبا اليوم على رواج الأفكار العنصرية وصعود اليمين المتطرف وتراجع النموذج الديمقراطى، بل تمتد لتشمل العديد من جوانب حياة الشعوب الأوروبية التى عادت قارتهم لتكون ساحة للحروب والمواجهات العسكرية ولسباق تسلح خطير تتمثل أحدث تجلياته فى عزم الولايات المتحدة الأمريكية وضع المزيد من عتادها فى قواعدها على الأراضى الأوروبية (صواريخ متوسطة المدى قبل أى سلاح آخر).
والشاهد أن عددًا معتبرًا من الباحثين الأوروبيين صار ينظر إلى الأغلبيات فى بلدان القارة كمجموعات يحركها الخوف من الحاضر والمستقبل، وتستسلم لمقولات الكراهية التى يروج لها اليمين المتطرف، ولا تقف فى وجهها سوى أقليات تريد الحفاظ على الحرية وتبحث عن قوى سياسية تقدمية تعبر عن آمالها فى مجتمعات منفتحة وعادلة. وفى المقابل، يعتقد كثرٌ من مفكرى وساسة القارة العجوز أن إدانة الأغلبيات باعتبارها وقودًا بشريًا لنيران اليمين المتطرف غير صائبة. يشدد هؤلاء على أن الناخبين والناخبات فى أوروبا يعطون اليمين المحافظ والمتطرف أغلبيات برلمانية بعدما صبروا طويلًا على الأحزاب اليسارية والتقدمية التى أخفقت فى تقديم حلول حقيقية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية وللتوترات المرتبطة بعضوية الاتحاد الأوروبى وقضايا كالهجرة واللجوء.
لا تصوت الأغلبيات لليمين حبًا فى مقولات الكراهية أو طلبًا لمجتمع يطهر من الأجانب، بل تصوت له لأن اليسار لم ينتج سوى عموميات عن ضرورة مواصلة السياسات الإنسانية والالتزام بالاندماج الأوروبى، ولم يتناول بجدية المعاناة الاقتصادية والاجتماعية للناس. ولو كان اليسار تبنى أفكارًا سياسية شجاعة كرفع الحد الأدنى للأجور وإعادة النظر فى النظم الضريبية التى تحابى الأغنياء، وتلقى بالعبء الضريبى الأكبر على عاتق الفئات متوسطة ومحدودة الدخل، لتغيرت نتائج الانتخابات.
قطاعات واسعة بين المواطنات والمواطنين الأوروبيين لم تعد تشعر بأن السياسة الرسمية والأحزاب المشاركة بها يمينًا ويسارًا تمثل المصالح الحقيقية للناس وتدافع عنها وتضطلع بترجمتها إلى قوانين وسياسات قابلة للتنفيذ. تطبق حكومة ماكرون فى فرنسا، على سبيل المثال، سياسات اقتصادية واجتماعية (فرض ضرائب جديدة على الوقود مثالًا) تنتقص من حقوق الفئات متوسطة ومحدودة الدخل وتفعل ذلك فى لحظة مجتمعية تتسع بها الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتتحول بها أطراف المدن الكبيرة (باريس نموذجًا) لقنابل موقوتة اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا. ليست الاحتجاجات الأخيرة التى شهدتها فرنسا سوى «احتجاجات خبز» تقليدية كتلك التى تشهدها بلدان العالم النامى، ولم يكن العنف الذى شهدته غير ترجمة مباشرة لليأس من أن تستمع السياسة الرسمية أو أن تستمع الأطراف المشاركة بها من قيادات حزبية وبرلمانية إلى أنين الناس إن هم لم يخرجوا بصخب إلى الفضاء العام.
فسياسة اليوم وساستها يرفضون التوقف عن محاباة الأغنياء وتهميش الفئات متوسطة ومحدودة الدخل تارة باسم مقتضيات الاندماج الأوروبى وضغوط العملة الموحدة وتارة باسم العولمة الاقتصادية وشروط المنافسة فى الأسواق.
• • •
مجددًا، من يدرس صعود اليمين المتطرف والشعبوى والعوامل المجتمعية التى تدفع قطاعات مؤثرة من المواطنين والمواطنات لانتخابه حتمًا سيكتشف أن عجز الأحزاب المشاركة فى السياسة الرسمية عن تبنى أفكار شجاعة توفر وإن القليل من الحلول الحقيقية للأزمات القائمة هو المسبب الأول. فى إيطاليا، تواكب التدهور الاقتصادى وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والاستدانة الحكومية مع فوارق فى الدخل ازدادت بعنف بين الأغنياء والفقراء ومع ضغوط اجتماعية بفعل تحديات الهجرة واللجوء من جهة والمنافسة الأوروبية-الأوروبية فى سوق العمل. اليوم، ترى العاملة أو الموظفة الإيطالية متوسطة الدخل قدرتها على الحفاظ على نمط حياتها وحياة أسرتها تنهار وتتنافس فى سوق العمل مع عاملات وموظفات من بلدان أوروبا الشرقية والوسطى، وتلمح التوترات المجتمعية بفعل الفقر والبطالة والهجرة فى ازدياد.
وإزاء كل ذلك لم تقدم الأحزاب السياسية التقليدية فى اليمين واليسار غير استجابات خائفة وجزئية ولم تقوَ على سبيل المثال على طرح أفكار كفرض ضرائب إضافية على الأغنياء والالتزام بتوجيه العائد إلى الفئات متوسطة ومحدودة الدخل. بل تُرك الأمر برمته جانبًا حتى جاءت الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية، وادعت تبنيها أفكارًا للعدالة الاجتماعية ومزجتها بمقولات كراهية ضد الأجانب وضد الاتحاد الأوروبى، وبمقولات تستحث النعرات الوطنية، وبذلك المزيج حققت نجاحاتها المتتالية فى صناديق الانتخابات.
بل إن الأحزاب التقليدية تقف عاجزة عن طرح مبادرة سلام واحدة لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية وإيقاف جنون سباق التسلح الذى يهدد استقرار القارة الأوروبية والعالم.
• • •
بقى أن أشير إلى أن بعض من يدرس العلوم السياسية والتاريخ من المنتمين إلى اليسار الأوروبى يدفع بضرورة عدم تعميم الاتهامات للأحزاب التقليدية فى اليمين واليسار بالعجز عن تبنى أفكار سياسية شجاعة. تواجه الأحزاب التقليدية تحديات كبرى ترتبط بتراجع الأهمية المجتمعية للقطاعات السكانية التى اعتادت تمثيلها. فالحركات والنقابات العمالية التى ولد اليسار الأوروبى من رحمها لم تعد ما كانت عليه حتى ثمانينيات القرن العشرين، والفئات السكانية متوسطة الدخل وقاطنة المدن تخلت عن رؤيتها المحافظة التى دفعتها لانتخاب الأحزاب المسيحية الديمقراطية وغيرها من أحزاب اليمين التقليدى فى النصف الثانى من القرن العشرين.
يواجه اليمين واليسار تلك التحديات وتتشكل أحزاب سياسية بعيدًا عن الوسط كاليمين الشعبوى واليسار الراديكالى وتنافس أحزاب جديدة على الوسط كالخضر بأفكارهم عن البيئة والمساواة الكاملة بين المرأة والرجل، غير أن تعميم اتهام الأحزاب التقليدية بالعجز يتسم بعدم الدقة وفقا لهذه المجموعة من مفكرى ومثقفى اليسار. فى ألمانيا، على سبيل المثال، جاء الكثير من أفكار التحديث الكبرى خلال العقود الماضية من الاشتراكيين الديمقراطيين والمسيحيين الديمقراطيين، حيث أقر الاشتراكيون سياسات كالحد الأدنى للدخل وتغيير النظم الضريبية للحفاظ على دولة الرفاهة الاجتماعية والإبقاء على خدمات التعليم والرعاية الصحية المجانية، بينما تبنى المسيحيون الديمقراطيون سياسات الاندماج الأوروبى من العملة الموحدة إلى ضم الأعضاء الجدد فى شرق ووسط القارة.
فى المقابل، لا تفعل الأحزاب الأخرى سوى الترويج تارة لمقولات الكراهية والخوف وثانية لمقولات فتح الأبواب للمهاجرين والمهاجرات واللاجئين واللاجئات دون قيود وثالثة لمقولات عن البيئة والمساواة بين المرأة والرجل، بينما تتجاهل الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء داخل المجتمعات الأوروبية والفجوة الواسعة داخل الاتحاد بين الشمال الغنى والجنوب الفقير.
وإن اتصفت الأحزاب التقليدية اليوم بشىء من الابتعاد عن قطاعات سكانية مؤثرة وبتطبيق سياسات اقتصادية واجتماعية غير ملائمة (حكومة ماكرون نموذجا) وبالتخاذل عن تطبيق سياسات ضرورية مثل الضرائب الإضافية على الأغنياء (الضريبة المقترحة حاليًا فى ألمانيا على الميراث مثالًا)، إلا أن احتجاجات المواطنين والمواطنات فى الشارع واحتجاجاتهم فى صناديق الانتخابات بالتصويت لليمين المتطرف والشعبوى قد تعيد الأحزاب التقليدية إلى دوائر الفاعلية السياسية وتدفعها إلى تبنى الجرىء والشجاع من الأفكار لكى تنجح فى البقاء.
والأرجح أن الحقيقة تظل خليطًا من كل المشار إليه فى المقولات السابقة وحصيلة لتفاعلاتها على أرض الواقع مع قضايا الحرب والصراع وتراجع معدلات النمو وتحديات التغير المناخى والكوارث الطبيعية وجميعها صارت تقض مضاجع سكان القارة العجوز.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى