رأي

أوروبا «الوحيدة»

كتب علي قباجة, في الخليج:

بدأت أوروبا تصارع وحيدة بعد إعلان استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة، التي تضمنت انتقادات لاذعة للقارة وقادتها حول موضوعات عدة، من بينها الهجرة وحرية التعبير. وأشارت الوثيقة أيضاً إلى أن أوروبا تواجه «احتمال اضمحلال حضاري»، وشككت في مدى موثوقيتهم كشركاء للولايات المتحدة على المدى الطويل.
وتزامن مع هذه الوثيقة هجوم حاد من دونالد ترامب على زعماء الاتحاد الأوروبي؛ إذ وصفهم بالضعفاء الذين لا يعرفون ماذا يفعلون، مضيفاً أن أوروبا نفسها لا تعرف ماذا تفعل، الأمر الذي دفع زعماءها إلى الشعور بالاستياء والقلق في آن؛ إذ إن ما حصل يمثل أوضح فصول ما كانوا يتخوفونه سابقاً، وهو تراجع المظلة الأمريكية عن حمايتهم.
تجد أوروبا نفسها الآن في وجه عاصفة غير مسبوقة، وتسعى، متأخرة، إلى تدارك أنها وحيدة في محيط متلاطم بالصراعات العالمية. فروسيا، كالدب المفترس، تنقضّ على أوكرانيا، وتحقق مكاسب ميدانية استراتيجية على الأرض، متجاوزة الدعم الأوروبي المالي والعسكري اللامحدود لكييف، في حين تشن عمليات «غير معلنة» فوق منشآت استراتيجية في أوروبا بطائرات مسيرة تنفي موسكو صلتها بها، فضلاً عن مخاوف من طموح موسكو لتوسيع حربها لتطال دولاً أخرى، في ظل شبه عدم رغبة واشنطن في التورط.
أما على الصعيد الآخر، فتواجه أوروبا استنزافاً اقتصادياً غير مسبوق بسبب الحرب القائمة على حدودها الشرقية؛ إذ خسرت الطاقة القادمة من روسيا إلى حد بعيد، كما أصيبت التجارة البينية في مقتل. والأشد وطأة عليها هو التزامها بدعم أوكرانيا إلى أقصى حد، إضافة إلى مهمة تحديث جيوشها لتعويض الانسحاب الأمريكي في حال حدوثه، ولمواجهة أي حرب مستقبلية يرى بعض قادتها أنها حتمية.
بدأت دول أوروبا تدرك أخيراً أهمية النداءات الفرنسية المتواصلة نحو فك الارتباط العسكري بواشنطن؛ إذ باتت ترى أن أمريكا بصدد التخلي عنها في أحلك الظروف، وأنها تُركت فريسة سهلة أمام حرب قد تقع؛ لذا بدا استياؤها واضحاً من توجهات ترامب، لاسيما ما يتعلق بـ«ازدرائه لها»، إضافة إلى عزمه إنهاء الحرب في أوكرانيا بأي ثمن. وقد أعرب القادة الأوروبيون عن قلقهم المتزايد من أن ساكن البيت الأبيض قد يتخلى عن كييف ومن معها، واعتبروا أن بعض البنود التي تضمنتها خطة ترامب لوقف الحرب غير واقعية أو مقبولة.
أما فيما يتعلق بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة، فقد قطعت أوروبا الشك باليقين بأن أمريكا في طريقها «لفك الارتباط» بها؛ لذلك فقد دعت ألمانيا دول الاتحاد إلى الاعتماد على نفسها من الآن فصاعداً بعيداً عن الدعم الأمريكي، فيما طالبت فرنسا بضرورة تسريع خطوات أوروبا نحو «الاستقلال الاستراتيجي».
أوروبا اليوم تدرك أنها أمام واقع جديد، وخيارين لا ثالث لهما: إما البدء في بناء ذاتها قوة إقليمية في ظل عالم يعيش مخاض تعدد الأقطاب، وإما أن تتشتت وتتفسخ وتصبح قوة لا وزن لها بين الكبار.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى