أوروبا الحائرة

كتب أحمد مصطفى, في “الخليج” :
يدرك الأوروبيون الآن أكثر فأكثر أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ماضٍ في نهجه لفصم عرى العلاقة المميزة عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة ودول أوروبا وإذا كان الخلاف بشأن الحرب في أوكرانيا والموقف من روسيا هو الطاغي إعلامياً، إلا أن مستقبل العلاقات الأوروبية الأمريكية يواجه مشكلة أعمق من ذلك حتى الخلاف بشأن حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحاجة أوروبا إلى المساهمة الأمريكية الأكبر في الحلف وضمان قوتها العسكرية حين الحاجة إليها، على أهمية ذلك، ليست مصدر القلق الوحيد للأوروبيين.
فالميثاق الأطلسي الذي وقعه رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشيرشل والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عام 1941 لا يعني إدارة ترامب في شيء، بل على العكس، تريد تلك الإدارة من أوروبا «رد الجميل» الأمريكي الذي تمثل في مشروع مارشال لمساعدة الاقتصادات الأوروبية على التعافي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945. فبغض النظر عن فرض رسوم تعرفة جمركية على الصادرات الأوروبية إلى أمريكا، والتي قابلتها أوروبا بفرض رسوم عقابية على الواردات من أمريكا، تريد إدارة ترامب من الأوروبيين ضخ المزيد من الأموال في الاقتصاد الأمريكي، أما عن طريق شراء بضائع وسلع وخدمات أمريكية أكثر أو بالاستثمار الأجنبي المباشر.
صحيح أن الإدارة الحالية ليست متفردة في الضغط على الأوروبيين لفتح أسواقهم أمام الأمريكيين، لكنها حاسمة في هذا الأمر أكثر من سابقاتها، فلدى أوروبا حزم متعددة الطبقات من القواعد والمعايير تجعل نفاذ السلع والخدمات الأمريكية إلى أسواقها صعباً، حتى بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست) وتحررها من كثير من القيود الأوروبية تظل غير قادرة على فتح أسواقها أمام منتجات أمريكية زراعية معدلة وراثياً أو حتى الدواجن الأمريكية المغسولة بالكلورين.
كل هذا ترك الأوروبيين في حيرة من أمرهم فعلاً، فهم لا يستطيعون الاستغناء عن العلاقة القوية مع أمريكا وفي الوقت نفسه يخشون على ما رسخوه من قواعد وقوانين ونظم، فضلاً عن أنهم لا يستطيعون الاستجابة لمطالب إدارة ترامب كاملة. صحيح أن واشنطن لم تطلب منهم بعد تعويضات عن مساعدتهم منتصف القرن الماضي، لكن هذا يمكن أن يحدث إذا بدأت سلسلة تنازلات لا تتوقف.
الأهم والأخطر والذي ربما لا يلقى اهتماماً إعلامياً كبيراً، هو ما يراه الأوروبيون من توجه أمريكي لهدم «المؤسسة» والنيل من النظام التقليدي للدولة تحت غطاء محاربة البيروقراطية وضبط الهدر الحكومي وزيادة فعالية أداء الإدارة، إذ يشعر الأوربيون بخطر صعود تيارات يمين متطرف في دولهم، معاد لما تسمى «الدولة العميقة». وتستمد تلك التيارات قوة وزخماً من إدارة ترامب وبعض أركانها، خاصة مستشاره الأهم الملياردير إيلون ماسك الذي يحاول التدخل في السياسات الداخلية لدول أوروبا بدعم تلك التيارات المتطرفة علناً.
هناك خشية أيضاً من تصاعد توجهات شوفينية وقومية أقرب للتطرف نتيجة ردود الفعل على السياسات الأمريكية عموماً والتي تستهدف منها أوروبا بخاصة. على سبيل المثال، بدأت دعوات في بعض أركان أوروبا لمقاطعة السلع والبضائع الأمريكية وحسب الأرقام المعلنة، تراجعت مبيعات شركة «تيسلا» للسيارات الكهربائية التي يديرها إيلون ماسك في دول أوروبا بشكل واضح وإن كانت تلك الموجات في مهدها بعد، لكن من يستبعد أن تصبح مثل توجهات ترامب الشعبوية على طريقة «أوروبا أولاً» وهذا احتمال حدوث شرخ عميق في ما يسمى «العالم الغربي الديموقراطي» يتخوف منه الأوروبيون.
هناك من يفسرون تقارب ترامب مع روسيا على أنه لا يستهدف فقط حل أزمة حرب أوكرانيا بل يعني تركيز الإدارة الأمريكية على الصين باعتبارها المنافس الأهم وأن استمالة روسيا تعني كسر التقارب الذي حدث بينها وبين الصين كي تستفرد واشنطن ببكين وبغض النظر عن مدى دقة هذه التحليلات وما إذا كان ترامب أصلاً يفكر بهذه الطريقة أم لا، فإن كل ذلك يزيد من حيرة الأوروبيين.
سبق أن ضغطت الإدارة الأمريكية السابقة على أوروبا لتتخذ موقفاً أكثر تشدداً تجاه الصين، لكن الأوروبيين حاولوا تحقيق توازن بين مصالحهم وبين التوافق مع سياسة أمريكية لاحتواء القوة الصينية الصاعدة، فحتى إذا كانت إدارة ترامب تستهدف عزل الصين عن روسيا، فإن الأوروبيين قد يجدوا أنفسهم يميلون إلى الناحية الأخرى من معادلة السياسة الخارجية الجديدة تلك، أي أنهم يجدون مصلحة في عدم الصدام مع الصينيين لموازنة التقارب الأمريكي – الروسي.
تظل كل هذه احتمالات، لكنها بالفعل مادة للمناقشات و«العصف الذهني» في الدوائر الأوروبية حالياً، إنما السمة الغالبة على الجميع في أوروبا، بالإضافة إلى بريطانيا أيضاً، هي الحيرة: ماذا نفعل؟! ربما الفعل المؤكد هو توجه أوروبا لتعزيز قدراتها الدفاعية، حتى لو كانت ستظل معتمدة على الغطاء العسكري الأمريكي وفي هذا التوجه فائدتان: الأولى هي المباشرة بتحسين القدرات العسكرية للدول الأوروبية والثانية هي أن الزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري ستعني ضخ مئات المليارات في النشاط الاقتصادي ما يحسن فرص النمو المتباطئ، حتى لو كانت غالبية تلك الأموال ستأتي من الاقتراض ما يرفع سقف الدين العام وعجز الميزانيات.