رأي

أميركا وخطاب الاضطهاد المسيحي

كتب ديفيد فرينش في صحيفة نيويورك تايمز.

يعتقد الملايين من إخواني الإنجيليين أننا نتعرض للاضطهاد بالفعل، أو أننا على بعد انتخابات واحدة من مواجهة حملة قمع. ويسهم هذا الشعور بالخوف واليأس في ربط المسيحيين المحافظين، ويقصد بهم أولئك الذين يجعلون من الكنيسة ومؤسساتها محوراً لحياتهم، بترمب؛ الرجل الذي يعتقدون أنه سيقاتل من أجل الحفاظ على الإيمان حياً على مستوى المجتمع.

والإجابة الموجزة: لا، وذلك بالقياس إلى أي تعريف تاريخي حقيقي للاضطهاد. الحقيقة أن المسيحيين الأميركيين يتمتعون بقدر هائل من الحرية والسلطة.

ومع ذلك، ليست هذه الإجابة الوحيدة هنا، فالتاريخ الأميركي يروي لنا قصة فصيلين متناحرين يمتلكان رؤى مختلفة للغاية لدور الإيمان في الحياة العامة الأميركية. ويحرص كلاهما على تعذيب الآخر، وتورط كلاهما في أخطاء دستورية خلقت صراعاً ثقافياً عميقاً.

إن إحدى أكثر التجارب قيمة في الحياة هي تجربة العيش داخل مجتمع أميركي يشكل جزءاً من التيار الرئيس بالبلاد، والعيش في مجتمع يقف على الهامش الوطني. لقد قضيت معظم حياتي أعيش داخل المركز الثقافي والسياسي للمسيحية الإنجيلية الأميركية، لكن عبر السنوات التسع الماضية جرى دفعي دونما هوادة نحو الهامش. كانت التجربة مؤلمة. ومع ذلك، أشعر بالامتنان للمنظور الجديد الذي منحتني إياه.

عندما تكون داخل المجتمع الإنجيلي، تجد وسائل الإعلام المسيحية تعج بقصص المسيحيين المعرضين للتهديد؛ عن الجامعات التي تميز ضد مجموعات الطلاب المسيحيين، أو وكالة رعاية كاثوليكية رفضت عقوداً تخص مدينة بعينها بسبب موقفها من الزواج، أو الكنائس التي واجهت معاملة تمييزية أثناء جائحة كوفيد، عندما كان يجري تمييز التجمعات العلمانية، غالباً، عن الأخرى الدينية.

أضف إلى ذلك الحكايات الشخصية للمسيحيين الذين واجهوا تهديدات بالقتل والترهيب والمضايقات عبر الإنترنت بسبب آرائهم، وحينها سيكون من السهل سرد قصة الانحدار الأميركي؛ الأمة التي كانت تحترم المسيحية وتبجلها، وتحولت اليوم إلى اضطهاد المسيحيين. وإذا كان اليسار غاضباً من المحافظين لسعيهم إلى حماية رجل مثل ترمب، فعليه ألا يلوم إلا نفسه.

ومع ذلك، فإنه عندما يجري دفعك خارج نطاق الإنجيلية، يظهر العالم أمامك في صورة مختلفة تماماً. ترى المسيحيين المحافظين يهاجمون الحريات الأساسية لخصومهم، والمجالس التشريعية في الولايات التي يسيطر عليها الحزب الجمهوري تمرر قوانين تقيد حرية التعبير للتقدميين والأميركيين المثليين جنسياً. ويحاول أعضاء مجالس إدارة المدارس المسيحية تقييد الوصول إلى كتب معينة، بحجة الدفاع عن معاييرهم الأخلاقية الخاصة. كما يسعى محافظون آخرون إلى عكس قرار المحكمة العليا في قضية أوبيرجيفيل ضد هودجز، لإنهاء الاعتراف القانوني بزواج المثليين.

إن الجمع بين هذه القصص والحكايات الشخصية عن التقدميين، وغيرهم من المعارضين الذين تعرضوا للتهديد والترهيب من قِبَل المسيحيين المحافظين، يجعلك تبدأ في رؤية السبب وراء زيف رواية الاضطهاد المسيحي. وإذا كان المسيحيون المحافظون غاضبين من الأميركيين التقدميين، لاعتقادهم أنهم منافقون حاقدون، فإن عليهم ألا يلوموا إلا أنفسهم.

وبعد أن عشت داخل وخارج مركز الإنجيلية المحافظة، تكونت لديّ وجهة نظر مختلفة؛ ففي حين أن هناك ظلماً حقيقياً بالفعل، تبقى رواية الاضطهاد المسيحي كاذبة في الأساس. أميركا لا تضطهد المسيحيين، بل إنها تعيش مع تداعيات خطأين دستوريين لاحقين يشوهان الحياة السياسية، ويلحقان الضرر بالثقافة حتى يومنا هذا.

الخطأ الأول أنه على مدار الجزء الأكبر من التاريخ الأميركي، تهاونت المحاكم في فرض البند الذي يمنع الدولة من فرض ديانة بعينها، الوارد في التعديل الأول. لقد عاش الأميركيون تحت ما سماه زميلي روس دوثات «الهيمنة الناعمة للبروتستانتية الأميركية». ومن بين الأسباب وراء كون هذه الهيمنة «ناعمة» أن أميركا لم تمتلك قط كنيسة وطنية، على غرار المؤسسات الكنسية الرسمية الأوروبية. وبالفعل، جرى فرض قراءة الكتاب المقدس والصلاة في المدارس، وإقرار ما عُرف باسم «تعديلات بلين» المناهضة للكاثوليكية بشكل صريح، التي سعت إلى إضعاف النفوذ الكاثوليكي داخل الولايات المتحدة.

ولم تكن هذه الهيمنة الناعمة مستدامة من الناحية الدستورية أو الثقافية. مثلاً، يتعارض فرض قراءة النصوص المقدسة البروتستانتية، في نهاية المطاف، مع التعديل الأول، الذي لا يسمح للدولة بتمييز أي طائفة أو مذهب معين.

وثقافياً، فإن التنوع والعلمانية يجعلان من هيمنة أي طائفة دينية محددة، أمراً مستحيلاً. ببساطة، لا يوجد عدد كافٍ من الأميركيين من أي تقليد ديني واحد يتيح الهيمنة على الحياة الأميركية.

في ستينات القرن العشرين، بدأت محكمة وارن في تفكيك المؤسسة البروتستانتية الناعمة، عبر منع ترديد الصلوات في المدارس، وقراءة الكتاب المقدس. ونجحت سلسلة من القضايا في تقييد سلطة الدولة في التعبير عن وجهة نظر دينية معينة.

ومع ذلك، بالغت حكومات الولايات والحكومات المحلية في مسار التصحيح، وأفرطت في فرض بند منع انحياز الدولة لمذهب ديني بعينه لدرجة بلغت حد انتهاك بنود حرية التعبير، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، عبر استهداف صور التعبير الديني الخاصة.

إن الرغبة في فك الارتباط بين الكنيسة والدولة أسفرت عن اتباع نهج يقوم على البحث عن وتدمير صور التعبير الديني داخل المؤسسات العامة.

لقد بدأت مسيرتي المهنية في مجال القانون عام 1994، عندما كان مبدأ المساواة في الوصول إلى المعلومات والتمويل موضع شك كبير. وقد أمضيت الجزء الأكبر من عَقدين في رفع دعاوى قضائية تلو الأخرى، قامت جميعها على الادعاء الأساسي ذاته: يتعين على الجهات الفاعلة في الدولة أن تعامل الخطاب الديني بالطريقة نفسها التي تعامل بها الخطاب العلماني، وينبغي أن يعني التفاعل السليم بين بند حرية ممارسة الشعائر الدينية وبند منع انحياز الدولة إلى مذهب ديني بعينه، أن الخطاب الديني الخاص لا ينبغي أن يحظى بتفضيل أو عدم تفضيل من قِبَل الحكومة. وكذلك لا تستطيع الدولة إدارة الكنيسة، ولا تستطيع الكنيسة إدارة الدولة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى