أبرزرأي

أميركا والعالم في صدمة: كل السلطة لترمب

كتب رفيق خوري في صحيفة إندبندنت عربية.

حين انتهت ولاية الرئيس الأميركي غروفر كليفلاند عام 1884 قالت زوجته فرانسيز لفريق العمل في البيت الأبيض، “أريد أن أرى كل شيء كما هو عندما نعود بعد أربعة أعوام. وهو عاد، ولكن بعد ثمانية أعوام حين ربح ضد بنجامين هاريسون عام 1892. ولا أحد فعلها بعد ذلك إلا دونالد ترمب بالعودة إلى البيت الأبيض بعد أربعة أعوام بالفوز على كامالا هاريس نائبة الرئيس التي حلت محل جو بايدن المتنحي عن الترشح في ذروة حملته الانتخابية.

وأميركا اليوم “جمهورية”. هي في البيت الأبيض وفي الكونغرس بمجلسي الشيوخ والنواب. وكل السلطة لترمب على طريقة (كل السلطة للسوفيات بلسان تروتسكي، لكن الخائفين من عودة ترمب في العالم وبالطبع في الولايات المتحدة أكثر من المرتاحين لعودته والتخلص من سياسات بايدن وفريق عمله والمراهنين عليه لإحداث تغييرات دراماتيكية في السياسة الخارجية). فيليب غوردون مستشار هاريس يرى أن ولاية ثانية لترمب ستجعل ولايته الأولى تبدو “معتدلة وحكيمة”. وروبرت أوبراين آخر مستشار أمن قومي للملياردير الجمهوري يقول إن “ولاية ترمب الثانية ستشكل عودة إلى الواقعية مع نكهة جاكسونية”.

لا أحد يعرف ماذا يفعل ترمب بالمبالغات و”الفانتازيا” التي خاض بها الحملة الرئاسية، فالقاعدة أن إدارة الحملة شيء وإدارة الحكم شيء آخر. فهو رسم لأميركا صورة بلد منحط و”مكب قمامة” ثم ادعى أنه سيعيدها خلال أعوام الرئاسة إلى “العصر الذهبي”، فضلاً عن حرصه على تعميق الانقسام السياسي إلى حد أن نصف الأميركيين لم يعد يريد أن يسمع ما يقوله النصف الآخر، متجاهلاً سؤال الرئيس أبراهام لينكولن “هل يمكن لأمة منقسمة أن تصمد؟”.

والواقع أن قادة الحزب الجمهوري حموا ترمب ودافعوا عن كل ارتكاباته التي قادت إلى محاكمات على عكس ما فعلوه مع الرئيس ريتشارد نيكسون أيام ووترغيت بإجباره على الاستقالة، كما أن أنصاره لم يخذلوه بحيث نال في هذه الدورة ما ناله خلال الدورة السابقة مع بايدن في حين خسرت هاريس 12 مليوناً من الذين انتخبوا الرئيس الحالي. هو ظاهرة، رجل لا يرتاد الكنيسة ويقول إنه “لم يطلب المغفرة من الله” لكن الإنجيليين وكل اليمين الديني المتشدد يدعمونه ويرون أنه قادر على “إيصال رسالتهم”. ثري يطرح سياسة ضريبية لمصلحة الأثرياء لكنه يقنع الفقراء والبيض العاطلين من العمل في الأرياف أنه يعمل من أجلهم.

واللعبة ليست بسيطة كما يتصورها الرئيس الـ47 ومارسها الرئيس نفسه حين كان الرئيس الـ45. لا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولا مع الرئيس الصيني شي جينبينغ ولا مع المرشد الإيراني علي خامنئي، ولا مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون ولا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ولا مع قادة الخليج ولا مع قادة أوروبا. فلا حرب أوكرانيا تنتهي بمكالمة هاتفية مع الكرملين إلا إذا كانت النهاية هزيمة كييف بعد قطع الأسلحة والمليارات الأميركية عنها. ولا مستقبل تايوان والتنافس الأميركي-الصيني وسياسات الحماية والعقوبات التجارية تنتهي بالرهان على الدبلوماسية الشخصية للرئيس. لا “الضغط الأقصى” على طهران يدفع الجمهورية الإسلامية إلى تنازلات كبيرة في المشروع النووي والحد من العمل للمشروع الإقليمي الإيراني، ولا ملاطفة كيم جونغ أون في بيونغ يانغ تفتح ورشة لتدمير الصواريخ والقنابل النووية الكورية الشمالية، ولا الدعم الأقصى لنتنياهو يحد من طموحاته الداخلية والخارجية على حساب الشعب الفلسطيني ودمائه. لا تودد ترمب إلى قادة الخليج يجعل ضمانات أميركا الأمنية ذات صدقية كاملة، ولا التلويح بالتخلي عن “الناتو” أو أقله بالمسؤوليات الأميركية الكبيرة حياله يدفع قادة أوروبا إلى تجاهل مصالحهم وأدوارهم والسير بالعصى في الصف الأميركي.

يقول جيفري ويلسون الباحث في تراث شكسبير في كتاب “شكسبير وترمب” عن الرئيس الذي لا يحب أن يقرأ أكثر من صفحة إنه “يبدو ويتصرف مثل بطل في مسرحية لشكسبير، بعضها تراجيدي وبعضها الآخر هزلي وكلها مملوءة بالصخب والغضب. وهو مثل الملك لير غاضب يبحث عن أهداف جديدة لغضبه. والمفارقة أن أنصاره الذين لا يعرفونه عن قرب لا يغضبون من غضبه، إذ يرونه سلاحاً ضد خصومهم.

وعلى العكس، فإن معظم الذين عملوا في إدارة ترمب وتولوا مناصب مهمة صاروا من أشد خصومه، فرئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأميركية الجنرال ميلي يراه “خطراً على الديمقراطية وأميركا”. ووزير الدفاع السابق مايك أسبر يقول إن ترمب “أكبر خطر على أميركا”، فيما أصدر مستشار الأمن القومي سابقاً جون بولتون كتاباً كشف فيه “شخصية ترمب وسياساته الفعلية وحذر من ولاية ثانية”. ووزير الدفاع في أول عهد ترمب الجنرال جيمس ماتيس وكبير موظفي البيت الأبيض كيلي وعدد من المعاونين في مواقع حساسة استقالوا غاضبين. وسواهم كثر.

والسؤال هو هل تعلم ترمب من تجاربه وإلى أي حد، أم أن نجاحه في الحفاظ على أنصاره وقيادتهم أقنعه بأنه ليس في حاجة إلى التعلم لأن نجاحه مرتين دليل على صواب أسلوبه؟ من يعرفونه يقولون إن نرجسيته تمنعه من إجراء مراجعات، ومن كانت تتلاعب بهم استطلاعات الرأي الكثيفة يومياً ومن مراكز متعددة جعلتهم النتائج المغايرة يفقدون الثقة بهذه الاستطلاعات ويزدادون ثقة بتأكيدات ترمب على “الفوز التاريخي”.

لكن المسألة في النهاية ليست شخصاً بل ظاهرة شعبية ركب موجتها شخص عرف كيف يديرها. فشل ترمب في الدورة الماضية لم يقنع جمهوره بأنه انتهى كسياسي. ونجاحه اليوم لا يقنع خصومه بأنه “ناجح” في السياسة، كما أن الخاسر ليس بالضرورة “فاشلاً” في السياسة. هاريس اعترفت بالخسارة عكس ترمب عام 2020 وتعهدت الكفاح دفاعاً عن أميركا والحرية، وقالت إن “الولاء ليس لرئيس بل للدستور”. ولعلها أدركت أن الناخبين ليسوا جاهزين بعد لرؤية سيدة برونزية من أصول هندية في البيت الأبيض. والواقع أن الجمهوريين ربحوا أميركا وخسروا أنفسهم لسيطرة ترمب على الحزب وعزل أو تهميش قياداته التاريخية، وهم في حاجة إلى حزب جمهوري جديد. أما الديمقراطيون فإنهم خسروا أميركا من دون أن يربحوا أنفسهم، وهم في حاجة إلى حزب ديمقراطي جديد.

أما قادة الشرق الأوسط والعالم فإنهم يعرفون أنه لا يمكن التنبؤ بما يفعله ترمب. وليس على من راهن ويراهن على الإفادة من عودة الرئيس الجمهوري لدعم سياسات كانت مواقف إدارة بايدن منها رمادية سوى أن يعمدوا إلى التفكير ثانية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى