أميركا وإسرائيل… رعاية أم شراكة؟
كتب فارس الخطاب, في “العربي الجديد” :
العلاقات الأميركية الإسرائيلية متميّزة دائماً، تحصل إسرائيل على ما تريدُه من أسلحةٍ ومواقفَ دوليةٍ وأمميةٍ، قانونيةٍ وإعلاميةٍ، مقابل ضمان استمرار القوى الفاعلة في المؤسّسات النافذة في دوائر الحكم والقرار في واشنطن بدعم المؤسّسة الرئاسية، وتهيئة الأجواء والشارع الأميركي لاستمرار هذا الحزب أو ذاك في حكم البلاد، وفي خلق قاعدة من الساسة حكّام الولايات والمُشّرعين، تمنح أو تدحض أي خطوةٍ تحدّد صلاحيات الرؤساء الأميركيين وقراراتهم، تتقاطع وأمن إسرائيل ومصالحها. لقد جرت الأمور دائماً على هذا المنوال، وبشكل واضحٍ وضامنٍ لتفوّقٍ إسرائيليٍ على قدرات كلّ الدول العربية مجتمعةً، وفي العمل أيضاً على تحسين صورتها ودورها في الشرق الأوسط بما يعزّز فرص التعاون والنجاح لكلّ دول المنطقة فيما لو تنازلت عن شعاراتٍ رفعتها أزيد من 70 عاماً تطالب بانسحابٍ إسرائيليٍ من الأراضي العربية المحتلّة إلى حدود 1967، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وفعلاً، حدث ذلك بشكل دراماتيكي خلال العقدين الأخيرين، فطبّعت دولٌ عربيةٌ وأخرى شرقُ أوسطيةٍ مع إسرائيل بنيّة حلّ القضية الفلسطينية من خلال “الدولتين”، وحلّ ما عجزت الحروب المتعدّدة عن حلّه.
ما جرى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023) مثّل قنبلة من العيار الثقيل بشأن هذه الرؤية كلّها وخطواتها العملية، وبرزت رؤية جديدة بمعايير مختلفة تماماً، فرغم رفض المجتمع الدولي عموماً، والولايات المتّحدة خصوصاً، ما قامت به حركة حماس حين أسرت عشرات الإسرائيليين خلال توغّل رجالها في مناطق “غلاف غزّة”، إلا أنّ الوجه الآخر للصورة يُقرأ بشكل مختلف، وربما يفضي إلى ما عجزت عن تحقيقه مؤتمراتٌ ولقاءات وقرارات وُضعت واختُرقَت وجُدّدَت خلال سبعة عقود ماضية. فبحسب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، بعد لقائه المرشد الإيراني علي خامنئي، فإنّ عملية طوفان الأقصى “حطّمت أسطورة” الجيش الإسرائيلي الذي “لا يقهر”، وأنّ “حرب غزّة هي حرب عالمية” والهيئة الحاكمة في الولايات المتّحدة هي “الشريك الرئيس في هذه الحرب”.
نعم، حقّقت العملية مكاسبَ تتعلق بإعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي، وحطّمت إلى حدٍ كبيرٍ أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” و”الجيش الأكثر أخلاقاً”، ووضعت إسرائيل بما ارتكبته من جرائم إبادة بحقّ شعب غزّة الأعزل في مواجهة مع كلّ شعوب الأرض، وأحرجت الحكومات، فلم يستطع بعضُها الاستمرار في دعم دولة الاحتلال التي تمادت في قتل الأبرياء، ولا تجاهل كلّ النداءات الأممية والدولية والتظاهرات “المليونيّة” من أجل إيقاف هذه الحرب، وكانت الولايات المتّحدة من بين الدول التي أحرجتها سياسة رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وإن كانت أقلّها استجابة لصوت الضمير الإنساني العالمي والقوانين الدولية التي وُضِعَت لكبح جماح أي مظهر من مظاهر الإبادة الجماعية.
من الواضح أنّ إسرائيل لا تعترف بقرار مجلس الأمن، فاستمرّت في قصف البيوت في رفح واستهداف المدنيين بالطائرات المُسيّرة وأسلحة القنص
لقد فاجأت واشنطن إسرائيل عندما امتنعت عن التصويت على قرار تبنّاه مجلس الأمن، في 25 من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، طالب بوقفٍ فوريٍ غير مشروطٍ لإطلاق النار في غزّة، والإسراع بإدخال مزيدٍ من المساعدات إلى القطاع، وهو ما أثار غضب نتنياهو ودفعه لإطلاق انتقادات لاذعة بحق الرئيس الأميركي جو بايدن، كما ألغى زيارةً لوفدٍ من كبار المسؤولين الإسرائيليين إلى واشنطن لبحث الهجوم المرتقب على مدينة رفح في جنوبي قطاع غزّة. من الواضح أنّ إسرائيل لا تعترف بقرار مجلس الأمن، فاستمرّت في قصف البيوت في رفح واستهداف المدنيين بالطائرات المُسيّرة وأسلحة القنص، وبتهديدها بشنّ العملية العسكرية على رفح، ولم تكترث كثيراً بما جاء به وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، من أجل إنهاء هذه الحرب والتوافق على صيغةٍ لإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين لدى “حماس”، وهو ما قد يفضي، بحسب محلّلين، إلى أن يذهب الرئيس الأميركي إلى تقييد المساعدات العسكرية لإسرائيل أسوةً بالحكومة والبرلمان الكنديين.
الخلاف الأميركي الإسرائيلي جدّيٌ، والجانبان في حالة من التناقض، تحوّلت تدريجياً إلى عدم ثقة، وهو ما يمكن أن يسمّى في علم السياسة “أزمة”، وإذا لم تتشكّل “خلية أزمة” تتدارك أسبابها فإن الهوة بين الرئيسين قد تتّسع لتخرُج عن السيطرة، وهي بحسب نتنياهو “ستضّر بجهود الحرب الإسرائيلية”. هناك أصواتٌ مهمّة في مجلس الشيوخ الأميركي ترى أن نتنياهو “عقبة أمام السلام”، ولا بدّ من انتخابات داخل إسرائيل لإزاحته عن سدّة الحكم، فيما يرى أعضاء آخرون في مجلسي الشيوخ والنواب أنّ نتنياهو يعمل على “توظيف العلاقة بين الولايات المتّحدة وإسرائيل لصالح اليمين”. إنّ واقع العلاقة الأميركية الإسرائيلية أكبر في حقيقة الأمر من تغيّر طفيف في السياسة الأميركية كامتناع واشنطن عن التصويت على قرار في مجلس الأمن له تأثير محدود على الأرض أو من خلال تصرّفات رئيس الحكومة الإسرائيلية، فالبلدان، بحسب وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتشدّد بتسلئيل سموتريتش، “شريكان”، والولايات المتّحدة ليست الدولة “الراعية” لإسرائيل حتى تفرض عليها ما يجب أن تفعله للحفاظ على أمنها.