أميركا لا تضغط ولا تستعجل اتفاقا مع إيران
كتب الإعلامي طوني فرنسيس في “سكاي نيوز عربية”:
لا حرب ولا اتفاق مع إيران في خصوص ملفها النووي، هذا ما يذهب إليه مراقبون كثر يتابعون سير عملية النقاش في هذا الملف وصولاً إلى الاتفاق الأخير بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
قدم المدير العام للوكالة رافائيل غروسي تقريره إلى مجلس محافظي الوكالة الأسبوع الماضي إثر زيارة قام بها إلى طهران في أعقاب إعلان المنظمة الدولية قيام إيران بتخصيب يورانيوم بنسبة 83.7 في المئة، وفي طهران تعهدت السلطات مجدداً بالتعاون، وهذا ما نقله غروسي أيضاً.
سارعت الولايات المتحدة في بيان منفرد إلى دعوة النظام الإيراني للتعاون الكامل والفوري مع مفتشي الوكالة وتقديم جميع الوثائق والمعلومات التي يطلبونها، لكن الحلفاء الأوروبيين الثلاثة (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) كان لهم موقف أكثر صرامة، فقد أعربت البلدان الثلاثة في بيان مشترك عن “قلقها البالغ إزاء أنشطة إيران الأخيرة في ما يخص تخصيب اليورانيوم” ودعتها إلى “الوفاء بالتزاماتها”.
وكشفت “وول ستريت جورنال” في المناسبة أن الأوروبيين “يريدون إصدار بيان انتقاد ضد إيران، إلا أن أميركا لا ترغب في مثل هذا الإجراء”، ويفسر مراقبون التشدد الأوروبي بعاملين، الأول التدخل الإيراني في حرب أوكرانيا عبر تزويد روسيا بالمسيرات والصواريخ، والثاني التهديدات الإرهابية التي أعلن أن الأجهزة الإيرانية وجهتها لمعارضين إيرانيين يعيشون في بريطانيا ودول أخرى.
وكانت الوكالة الذرية عرضت في تقريرها يوم الـ 28 من فبراير (شباط) أن إيران قامت بتخصيب اليورانيوم في “منشأة فوردو” بنسبة 83.7 في المئة، أي أقل بقليل من الـ 90 في المئة اللازمة لإنتاج قنبلة ذرية، وبعد أيام قليلة، أي في الرابع من مارس (آذار) الجاري، أعلن غروسي بعد محادثات مع الإيرانيين تخللها لقاء مع الرئيس إبراهيم رئيسي أن الجانبين اتفقا على إحراز تقدم في مختلف القضايا، بما في ذلك تحقيق الوكالة المتوقع في شأن جزئيات اليورانيوم التي عثر عليها في ثلاثة مواقع غير معلنة في إيران.
وفي اليوم التالي أعلن مدير الوكالة أنه تم الاتفاق على إعادة تركيب جميع معدات المراقبة الإضافية مثل كاميرات المراقبة التي تم وضعها في المواقع النووية بموجب اتفاق عام 2015 وأزيلت عام 2018.
بدت إيران شديدة التعاون مع الوكالة الدولية وغروسي تحديداً على رغم أنها وصفته قبل أيام بأنه “جاسوس إسرائيل”، وفي هذا الخصوص قالت صحيفة “كيهان” إن “غروسي الجاسوس سيسلم كل المعلومات التي حصل عليها من الإيرانيين إلى إسرائيل”.
لم يستمر هذا التوصيف طويلاً، فالمتحدث باسم الخارجية الإيرانية فناصر كنعاني سيقول في اليوم التالي “لقد توصلنا إلى تفاهمات جيدة يمكن أن تمهد لحل القضايا العالقة”.
ولم يكن التوصل إلى تفاهمات تعطي إيران مزيداً من الوقت أمراً مفاجئاً، فقد كانت الإدارة الأميركية في مناخ هذه النتيجة منذ مدة وهي التي سعت إلى التخفيف من خطورة التقارير عن سعي إيران إلى اختراق “العتبة النووية”، ولم تمارس بحسب مسؤولين أميركيين سابقين ضغوطاً كافية على السلطات الإيرانية، بل إن مواقفها اتهمت بالتردد والالتباس.
وفي نهاية فبراير الماضي ومع انتشار الأخبار عن نسبة التخصيب الجديدة، حرص مدير الاستخبارات المركزية الأميركية وليم بيرنز على القول لمحطة “سي بي أس نيوز”، “لا نعتقد أن المرشد الأعلى اتخذ قراراً باستئناف برنامج التسليح الذي علقته إيران نهاية 2003″، لكن وكيل وزارة الدفاع الأميركية كولن كال قال في الوقت نفسه تقريباً للكونغرس (28 فبراير) إن “إيران قد تنتج ما يكفي من اليورانيوم لصنع قنبلة نووية واحدة في حوالى 12 يوماً”.
وجاءت الرسائل الأميركية المتضاربة تتويجاً لسلوك غير مفهوم يرسل مزيداً من إشارات الريبة إلى الحلفاء ومزيداً من “التطمينات” إلى إيران، بما يضاعف رغبتها في توسيع نفوذها الإقليمي وقمع الانتفاضات المتتالية للشعب الإيراني ضد نظام الحكم.
وكتب الباحث في “معهد واشنطن” هنري روم عن أزمة انهيار العملة في إيران قائلاً إنه “بدلاً من أن تسعى طهران إلى تخفيف العقوبات، إذ تبدو عازمة على تعزيز الريال باستخدام الأدوات المحلية”، لكن اللافت هو ما يضيفه روم من أن “واشنطن لم تكن راغبة في شن حملة لكبح صادرات النفط الإيرانية التي ارتفعت بشكل كبير ومنحت النظام المزيد من الموارد لدعم الريال الإيراني”. (الدولار يساوي 493 ألف ريال).
ولم تتوقف الولايات المتحدة عن توجيه التحذيرات إلى إيران وأنها لن تسمح بامتلاكها أسلحة نووية، وفي الآونة الأخيرة تشاركت مع إسرائيل في مناورات عسكرية موجهة ضد طهران، لكن سلوكها الفعلي لم يوح باستعجالها حسم الموقف بما يضبط المشروع النووي الإيراني وسلوك إيران الإقليمي.
وطوال المرحلة الماضية لم تغير الإدارة الأميركية تصريحاتها تجاه إيران، وهي لا تزال تعلن أن “جميع الخيارات على الطاولة”، وهذا الإعلان العام لا يبدو أنه مصدر إزعاج للإيرانيين.
ويلاحظ الدبلوماسي الأميركي السابق دنيس روس أن الإدارة لم تظهر عزمها على الردع، بدليل أنها لم تجر مناورات عسكرية تتضمن هجمات جو- أرض، ولم تجعل الإيرانيين يرون انخراطاً أميركياً مع دول الخليج العربي في المشاورات والتنسيق حول الاحتمالات العسكرية المطروحة، ثم إن الإدارة الأميركية لم تقم بما من شأنه تغيير قناعة الإيرانيين بأن أميركا لن تهاجم إيران وأنها ستمنع إسرائيل من الهجوم.
ويورد روس أن إسرائيل التي ستحتاج إلى ناقلات وقود جوية لن تتسلم الناقلة الأولى قبل نهاية عام 2025، وهي لم تتزود بذخائر خاصة جديدة، فيما تنقل أميركا العتاد من مستودعاتها في تل أبيب إلى أوكرانيا.
وفي دليل آخر على “عدم جدية” الإدارة يورده روس أن أميركا لم ترد على استهداف القوات الأميركية مرتين في سوريا خلال الشهر الماضي، بينما كان بإمكانها توجيه رسالة قاسية عبر ضرب مخيمات تدريب الميليشيات داخل إيران نفسها ومن دون الإعلان عن مسؤوليتها، وسيفهم الإيرانيون الرسالة تماماً.
وفي الإجمال لا يشذ سياق التعامل الأميركي مع المشروع الإيراني عما قيل وكتب منذ عهد الرئيس باراك أوباما، وهو ما يزيد قلق دول المنطقة ويفسره قادة طهران بأنه نوع من السماح لهم بتطوير برنامجهم النووي ومواصلة سياستهم الإقليمية وتلاعبهم بوكالة الطاقة.
ويمكن على هذا النحو إدراج مرونة الوكالة في إطار إعطاء مزيد من الوقت لنظام خرج سلفاً عن موجبات الاتفاق النووي، وهو شديد الارتياح لما آل إليه الموقف في فيينا، وربما تكون للإدارة الأميركية حساباتها الخاصة التي لا تتصل بالاتفاق.
وبحسب ما يراه المسؤولون الروس الذين يخوضون مواجهة حاسمة مع الأميركيين في أوكرانيا، فإن الاتفاق “شبه جاهز وبعض الأسطر فقط بحاجة إلى التفاوض”، على حد قول مندوب روسيا في الوكالة الدولية ميخائيل أوليانوف.
لكن أميركا لا تريد ذلك، وتفسيره بحسب الخبير الروسي أندريه أونتيكوف أن “الأميركيين تخلوا ببساطة عن فكرة الاستئناف المعقول للاتفاق النووي مع إيران، وربما تم حساب أن الصفقة ستبرم وبالتالي فإن المطلوب من وعد الأميركيين للإيرانيين برفع العقوبات هو إبعاد طهران من موسكو، لكن الإيرانيين لم يستجيبوا حتى الآن”، ورهانهم يقوى في المقابل على العلاقة مع روسيا والصين، وربما الانفتاح على بلدان الجوار.
لكن هذا جانب من الصورة، فالحديث عن اتفاق جديد أو نصف اتفاق لا يزال قائماً في موازاة وضع “الخيارات كلها على الطاولة”.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا