أبرزرأي

أميركا.. الحزب الديمقراطي ومأزق الانتخابات المقبلة

كتبت د. آمال مدللي في صحيفة الشرق الأوسط.

زار الرئيس الأميركي جوزيف بايدن في أوائل يناير (كانون الثاني) الحالي كنيسة في ولاية كارولينا الجنوبية، كانت مسرحاً لجريمة مروعة ضد الأميركيين السود عام 2015، لكي يستميل أصوات أولئك المواطنين بعدما أظهرت استفتاءات الرأي أن الرئيس الأميركي يخسر أصواتهم. إن غالبية الأميركيين السود يصوتون تاريخياً للديمقراطيين، وابتعادهم عن الرئيس بايدن مقلق جداً لحملته الانتخابية. الأكثر قلقاً له هو خسارته أصوات الشباب من الأميركيين السود، وجيل الشباب في الحزب الديمقراطي بشكل عام، وهم الشريحة التي يعول عليها للفوز بالانتخابات. خلال كلمته في الكنيسة أصبح واضحاً للرئيس أحد الأسباب المهمة لهذه الخسارة، وهو أمر لم يكن ليخطر بالبال عندما فاز الرئيس بايدن بالانتخابات منذ 3 سنوات ونصف سنة، إنها قضية فلسطين التي تُسبب تحولاً في موقف الشباب الأميركي الأسود، وتقسم الحزب الديمقراطي على نفسه في سنة انتخابية من أكثر السنوات أهمية، وربما في تاريخ الحزب وأميركا.

خلال إلقاء كلمته قامت مجموعة من الشباب والشابات برفع الصوت ومقاطعة الرئيس يطالبونه بالعمل على وقف النار في غزة. أجاب الرئيس بايدن أنه يعمل بهدوء مع الحكومة الإسرائيلية لخفض «القوات» والخروج من غزة، «إنني أفعل كل ما أستطيع لفعل ذلك».

هذا المشهد بات مألوفاً حيث تستقبل الرئيس مظاهرات أينما ذهب تطالبه بوقف النار. لكن المشهد في كنيسة إيمانويل كان لافتاً لأنَّه برمزيته يوثق للتحول في الرأي العام الأميركي، خصوصاً داخل الجالية الأميركية السوداء وبين شبابها بالتحديد، تجاه النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.

فالمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين التي تطالب بوقف النار تصبح يومية تقريباً. وعددت مبادرة «كراود كاونتنغ» 2357 مظاهرة في أميركا بين 7 أكتوبر (تشرين الأول) و10 ديسمبر (كانون الأول)، وهذه تعدّ أكبر وأوسع حملة لدعم تحرير فلسطين في تاريخ أميركا، حسب الموقع المذكور. والمظاهرات مستمرة، وكان آخرها مظاهرة ضخمة في 13 يناير في واشنطن.

وكان استفتاء قامت به «نيويورك تايمز – سيانا» أظهر أن الشباب الأميركي بشكل عام لا يوافق على سياسة الإدارة الأميركية تجاه الحرب على غزة، وأن 34 في المائة من الأميركيين السود يتعاطفون مع الفلسطينيين، مقابل 28 في المائة يتعاطفون مع إسرائيل. مقارنة بهذا، أظهر الاستفتاء أن 56 في المائة من الأميركيين البيض بشكل عام يتعاطفون مع إسرائيل، مقابل 17 في المائة يؤيدون الفلسطينيين. لكن هذا مختلف لدى الجيل الشاب. فبينما 46 في المائة من الناخبين الشباب قالوا إنهم يتعاطفون مع الفلسطينيين، قال 27 في المائة إنهم يتعاطفون مع إسرائيل.

وهذا التعاطف الأميركي بالنسبة للسود مع الفلسطينيين له جذور تاريخية، ويعود إلى زيارات قادة سود إلى المنطقة في الستينات والسبعينات من مالكوم إكس، وأعضاء منظمة الفهود السود «بلاك إنثر»، والقس جسي جاكسون، واجتماعهم بقادة منظمة التحرير الفلسطينية، إلى محمد علي كلاي وغيره.

لكن هذا التعاطف تجذر في السنوات الأخيرة من خلال عمل مجموعات فلسطينية وعربية مع الشباب السود، وتعاطفهم ودعمهم لهم ولحركات النشطاء السود، مثل حركة «حياة السود مهمة»، خصوصاً في مسائل حقوق الإنسان والعنف الذي تعرض له الشبان السود من قبل قوات الأمن. وقامت منظمات فلسطينية تربوية ونشطاء فلسطينيون – أميركيون ومنظماتهم بتنظيم رحلات إلى الأراضي الفلسطينية، مع حركات نشطاء أميركيين سود، ما جعلهم للمرة الأولى يطّلعون بأنفسهم على الحياة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال. ونقلت تقارير صحافية عن هؤلاء الشباب والشابات بعد عودتهم أنهم وجدوا أوجه شبه بين ما يعيشه الفلسطينيون والعنف والإهانات التي يتعرضون لها يومياً من قبل القوات الإسرائيلية، وبين ما يحدث للأميركيين السود في المدن، حيث يواجهون العنف والتمييز. وكان ناشطون فلسطينيون يوجّهون النصح لزملائهم السود في أميركا عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول كيفية مواجهة الغاز المسيل للدموع مثلاً، وكيف يتجنبون الإصابة.

ونقلت صحيفة «بوليتيكو» بعد قتل إسرائيل أكثر من 256 فلسطينياً خلال حربها مع الفلسطينيين في ربيع 2021 عن ناشط في منظمة «بلاك لايفز ماتر» (حياة السود مهمة) قوله: «إننا نعرف الاحتلال، نعرف الاستعمار، نعرف عنف قوى الأمن». وأظهرت هذه المواجهة بين إسرائيل والفلسطينيين بداية تحول في الرأي العام الأميركي، وخصوصاً الديمقراطيين تجاه إسرائيل، إذ أظهر استفتاء للرأي يومها، أجرته مؤسسة «غالوب»، أن غالبية الديمقراطيين قالوا إنه على الولايات الأميركية أن تضغط على إسرائيل أكثر من الفلسطينيين لحل النزاع، وعزت صحيفة «بوليتيكو» هذا التغيير لعمل حركة «حياة السود مهمة»، لأنها دعت إلى النظر إلى النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال منظار العدالة الاجتماعية. وهناك جيل أميركي جديد لا يهتم بالانتماء التاريخي لحزب معين أكثر من اهتمامه بقضايا العدالة، ويرى أنَّ الظلم في أي مكان هو ظلم في كل مكان في العالم، كما كان يقول القائد الأميركي مارتن لوثر كينغ. وهؤلاء يقولون إنهم لن يصوتوا لأحد إذا كان ما يقوم به يتعارض مع معتقداتهم ومواقفهم. وكثيرون من جيل الشباب يقولون إنهم يفضلون عدم المشاركة في التصويت على أن يصوتوا ضد قناعاتهم. وهذه أخبار سيئة للرئيس بايدن لأنهم يختلفون مع سياسته تجاه الحرب على غزة. فالأميركيون السود الشباب الذي تربوا في منازل ديمقراطية يقولون إن الولاء للحزب وعلى عكس عائلاتهم ليس أهم من ولائهم لما يؤمنون به.

لكن هذا التغيير والتحول داخل الجالية الأميركية السوداء لا يشمل السياسيين الأميركيين السود التقليديين، مثل غالبية أعضاء «كتلة الأميركيين السود في الكونغرس»، التي قال عنها رئيس المعهد العربي الأميركي جيمس زغبي إنها «ليست على تماس مع الناخبين السود». وأضاف أنَّ هناك أشخاصاً جيدين في الكتلة، لكن بشكل عام معظمهم يخافون من أن يتعرضوا لحملات ضدهم تهزمهم في الانتخابات، كما يتم الآن العمل على حملات لهزيمة التقدميين في الكونغرس، مثل النائب جمال باومن (ديمقراطي، نيويورك) بسبب موقفه الداعم لوقف النار في غزة وموقفه من إسرائيل. لكن يجب أن نتذكر أن الجالية الأميركية السوداء كانت معروفة تاريخياً أيضاً بدعمها لإسرائيل بسبب وقوف الجالية اليهودية إلى جانب الأميركيين السود ودعمهم خلال معركتهم لنيل حقوقهم المدنية ومحاربة التمييز العنصري ضدهم في منتصف القرن الماضي، وهذا يفسر الدعم المستمر لإسرائيل من قبل الجيل الذي عاصر الصراع لنيل السود حريتهم، بينما يرى الجيل الجديد أنه يدافع في وقوفه مع الفلسطينيين عن نفس المبادئ التي حارب من أجلها الأميركيون السود، وهي الحرية والعدالة الاجتماعية. لكن هذه العلاقة بدأ يظهر عليها التوتر مؤخراً أيضاً، خصوصاً بعد إجبار رئيسة جامعة هارفارد، أول رئيسة سوداء في تاريخ الجامعة، على الاستقالة بسبب شهادتها في الكونغرس حول اللاسامية في الجامعة وشنّ حملة عليها مشككة بنزاهتها العلمية.

إن الانقسام داخل الحزب الديمقراطي حول مسألة فلسطين بين جيل الشباب وجيل آبائهم، ومعارضة الجيل الجديد من الأميركيين من البيض والسود على حد سواء لسياسة الرئيس بايدن تجاه الحرب في غزة، سوف يؤذيان حظوظه في الانتخابات المقبلة. تحاول الإدارة الأميركية تغيير لهجتها في الحديث عن الحرب المستمرة، لكن الكلمة الوحيدة التي يمكن أن ترضي المعارضين للحرب هي «وقف» إطلاق النار، التي لم تجد طريقها بعد إلى البيت الأبيض.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى