رأي

أمريكا.. ورهان الأمن في إفريقيا

كتب الحسين الزاوي في صحيفة الخليج.

تتأرجح السياسية الخارجية الأمريكية، خلال السنوات الماضية، بين الإقبال والإدبار في علاقاتها بالدول الإفريقية، فهناك فترات غير واضحة من الناحية الاستراتيجية بالنسبة لأولويات واشنطن في القارة السمراء ويعود ذلك إلى التحولات الجيوسياسية التي تشهدها علاقاتها مع الصين وروسيا من جهة وإلى مصالحها الاقتصادية المباشرة من جهة أخرى. لكن التحدي الأبرز بالنسبة للإدارة الأمريكية في إفريقيا، يظل مرتبطاً بالأمن والاستقرار في قارة تشهد وجوداً لأكبر عدد من الدول الفاشلة والعاجزة عن حماية وحدتها الترابية، في مواجهة التنظيمات المسلحة التي تشكل خطراً جدياً على الأمن في العالم.
يرى الخبراء أن إفريقيا جنوب الصحراء هي المنطقة الأولى في العالم التي سجّلت أضعف مستوى من التنمية منذ خروج الاستعمار، كما أن إفريقيا هي التي تشهد أكبر معدل سلبي من حيث تحولات البيئة والمناخ، الأمر الذي تترتب عليه تبعات مدمّرة على مستوى الإنتاج الزراعي بسبب شحّ المياه وقلة الأراضي الصالحة للزراعة وهذه الصعوبات التي تواجهها القارة على ضخامتها، لا تشكِّل السبب الرئيسي لضعف التنمية، فهناك أساب أخرى جيوسياسية وفي طليعتها الصراعات التاريخية بين الدول الإفريقية المرتبطة بالخلافات الحدودية الموروثة عن الاستعمار والمواجهات القبلية والإثنية التي تُعدّ عنصراً حاسماً في انتشار حالة عدم الاستقرار.
ويمثل تزايد التطرف الديني لدى المجموعات المسلحة القريبة من «داعش» وتنظيم القاعدة أبرز المخاطر بالنسبة للدول الغربية وفي مقدمتها واشنطن التي تعمل من خلال قيادة «أفريكوم»، وهي وحدة عسكرية مكونة من قوات مقاتلة تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، على القيام بعمليات دقيقة من شأنها حفظ الاستقرار في كل الدول الإفريقية باستثناء مصر التي تقع في نطاق اختصاص القيادة المركزية الأمريكية ويمكننا أن نطرح هنا أسئلة جدية بشأن رهان القيادة العسكرية الأمريكية على الجانب الأمني في تعاطيها مع ملفات القارة السمراء.
والأجوبة عن هذه الأسئلة الافتراضية تبدو بديهية، حيث يشير أوبير فيدرين أنه في هذا العالم الذي نعيش فيه والمُقلق والقَلِق، فإن الرغبة في تحقيق الأمن يتم التعبير عنها في كل مكان وكل الذين ندّدوا لعقود من الزمن بالخيارات المراهنة على الأمن واعتبروها ظاهرة مرضية تستحق الإدانة، اضطروا إلى خفض أصواتهم وبالتالي فإن مسألة المطالبة بالأمن حاضرة في كل مكان، في العلاقات الدولية وفي السياسات الداخلية للدول أيضاً وقد وضّح بريجينسكي في السياق نفسه، أن الأمريكيين وفي إطار حرصهم على حماية أنفسهم، أرادوا الحصول على كل الأنظمة الدفاعية والردعية والهجومية وهناك إذن حاجة لتوازن القوى لمواجهة كل التحولات الطارئة الرقمية والمادية والأيديلوجية، وللتعامل مع التغيرات المناخية والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية الناجمة عن فقدان التوازن الديمغرافي والتنموي بين الشمال والجنوب.
ويقول فريدريك أنسل: إنه في عقود قليلة من الزمن أصبح الأمن يمثل البداية والنهاية في اللحظة نفسها بالنسبة للمواقف الدبلوماسية وبالتالي فإن مفهوم الأمن الذي هو قابل للترجمة إلى كل ألسنة العالم، يحمل من الناحية الوجودية طابعاً دفاعياً ومشروعاً من حيث القوانين والشرائع الدولية. وهذا ما يجعل كل القوى الكبرى تدافع عن مصالحها وتفرض هيمنتها بدعوى الدفاع عن أمنها، بل إن هناك من يعتدي على الآخرين ويمارس القتل والإبادة الجماعية ضد المواطنين العزل ويرفع شعار حقه في الدفاع عن نفسه وتحقيق الأمن له، كما تفعل إسرائيل الآن في غزة.
ويمكن القول إن الرهان الأمني الذي يرقى إلى مستوى الهوس وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر2001، يجعل واشنطن تنظر إلى القارة الإفريقية انطلاقاً من المنظور العسكري وتتوجس من الانتشار الكبير للتنظيمات المتطرفة التي يمكنها أن تنقل نشاطها في أي لحظة نحو العواصم الغربية وتحرص الولايات المتحدة في هذا السياق منذ سنة 2007 على تنظيم مناورات عسكرية سنوية تحمل اسم «الأسد الإفريقي» بالتنسيق مع المملكة المغربية وبمشاركة العديد من الدول الإفريقية من أجل مواجهة التحديات الأمنية على مستوى القارة. كما أن واشنطن تحرص على التنسيق الأمني مع الجزائر، لذلك فقد قام قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا في مطلع سنة 2025 بتوقيع اتفاقية تعاون عسكري مع الجزائر من أجل التصدي للتحديات الأمنية على مستوى دول الساحل الإفريقي.
ونخلص في الأخير إلى أن الاستنتاجات التي تذهب إلى أن واشنطن تركز حالياً على «دبلوماسية التجارة» انطلاقاً من خفضها للمعونات الاقتصادية الموجّهة لإفريقيا وتركيزها على تنمية المبادلات التجارية مع دول القارة، تبدو متسرعة لأن هذه الدبلوماسية لا تمثل سوى جزء من استراتيجية ترامب القائمة على «الابتزاز» مع كل دول العالم ويظل الجانب الأمني يمثل حجر الزاوية في تعامل الإدارة الأمريكية مع القارة السمراء وذلك اعتماداً على معطيات تتعلق بالأولويات الاستراتيجية لوزارة الدفاع الأمريكية التي ترسم سياسات واشنطن الأمنية وهي التي تفرض، في الأخير، رؤيتها كما فرضتها بالنسبة للملف الأوكراني.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى