رأي

أمريكا.. و«ترامب الثاني»

كتب جميل مطر, في “الخليج” :

كنت أحد الذين توقعوا، فور إعلان فوز دونالد ترامب على كامالا هاريس، أن يشهد العالم في أيامه الأولى في البيت الأبيض سلسلة من عناوين سياسات تشكل في مجموعها ما أطلقت عليه وقتها تعبير «تسونامي ترامبوي» يجرف أمامه دولاً وعقائد وأوضاعاً كان الظن أنها رسخت، هذا بالضبط ما فعله وكنا في النهاية، ضمن حلفاء لأمريكا، بين ضحايا هذا الإعصار.

للأسف ما رأيناه وسمعناه ومعنا العالم بأسره يستخدم لتحقيق غرضه أسوأ ما في قاموس الازدراء والاستخفاف والاستفزاز من كلمات وعبارات، أما الغرض فكان ولا يزال إحداث فوضى شاملة يهد بها قناعات وسياسات دول أخرى كبيرة وصغيرة، ليحصل لنفسه على حيز أوسع في ساحات الإعلام وليتخلص من منافسيه وخصومه وتبرئة نفسه من إدانات القضاء على كافة مستوياته ومكافأة كل الأغنياء الذين مولوا حملته الانتخابية، كل هذا وأكثر تحت لافته العمل لعودة أمريكا عظيمة من جديد.
لم يفاجئني الاستقبال السيئ في مؤتمر ميونيخ للأمن لنائب الرئيس الأمريكي، لم ينس الحضور الذين يمثلون في حقيقتهم قاعدة الحكم والنفوذ في القارة الأوروبية، لم ينسوا أن التيار اليميني الجارف الذي يكاد يطيح اليوم بعدد من حكومات أوروبا، هو من صنع أو دعم مساعدين للرئيس ترامب وأعوانه والمتعاطفين معه، أحزاب أوروبا المعتدلة واليسارية لن تغفر له ما فعل وحكومات أوروبا الراهنة لن تدعه ينعم باتفاق سلس مع روسيا على حساب أمن وسلام أوروبا، مرة أخرى تهتز ثقة الحلفاء بالقطب الأعظم ومرة أخرى تعود أوروبا مصدر الخطر الحقيقي على السلام العالمي.
ليس هنا المجال الأمثل للحديث عن أفراد المجموعة التي اختارها الرئيس ترامب لمساعدته في الحكم. أتوقع، ويتوقع محللون أمريكيون وأوروبيون، أن يكتشف الرأي العام الأمريكي نقائص في هذا الاختيار، بعضها أُثير في لجان مجلس الشيوخ التي راجعت هذه الاختيارات ولم تتوقف عندها رغم فداحتها. يستطيع الرئيس إجراء تغييرات في بعض مواقف السياسة الخارجية وعد أو هدد بها وهو ما حدث بالفعل، ولكنه سوف يجد صعوبة في التخلص من أحد مساعديه إذا وجد التخلص منه ضرورياً وهو يكاد يماثل ما حدث مع ستيف بانون. بمعنى آخر، أعتقد أن ترامب الثاني أضعف من ترامب الأول من حيث أنه يأتي وقد صارت «النخبة السياسية الحاكمة» محل نقد شديد.
أضف إلى موقف الرأي العام المسيس وكذلك إلى موقف الرأي المتخصص داخل أجهزة الأمن كالجيش ومواقع العصف الفكري مثلاً، بعض أخطاء انزلق إليها الرئيس الجديد ومجموعته في الحكم منها على سبيل المثال قرار الرئيس تشكيل «بطانة إيمان» من سيدات ورجال يحتلون مواقع تبشيرية في عديد المراكز الدينية ويحيطون الآن برئيس القصر ومساعديه. أشير هنا إلى بعض الأخطاء.

  • أولاً: تداول منصب الرئاسة في العهود الأخيرة عدد من الأشخاص لم يقدروا حق التقدير مكانة المنصب وحدود القوة في الأداء. جورج بوش الابن أساء بخضوعه لنفوذ جماعة ضغط صهيونية أطلقت على نفسها صفة المحافظين الجدد وجعلت الرئيس يندفع نحو حرب غير ضرورية لأمريكا في ذلك الحين. لكنها الحرب التي أساءت إلى هيبة الرئاسة إساءة لم تغتفر إلى يومنا هذا، وأساءت إلى سمعة أمريكا في مختلف مواقع العمل الدولي.
  • ثانياً: يسجل التاريخ أن رئيساً لأمريكا، القطب الدولي المشارك وقتها مع الاتحاد السوفييتي في قيادة النظام الدولي، ارتكب في المكتب البيضاوي جريمة تجسس على خصوم سياسيين. كانت فضيحة هزت ثقة الحلفاء في صدقية وأخلاق شاغل هذا المكتب. انتهى الأمر، كما لا شك نذكر، بعزل رئيس الدولة الأعظم من منصبه وتولي نائبه المسؤولية بعده. يشهد التاريخ أن هذه الفضيحة أسهمت بدرجة كبيرة في الإساءة إلى هيبة موقع عمل رئاسة الدولة العظمى وهي الإساءة المستمرة إلى يومنا هذا.
  • ثالثاً: تابع الكثيرون في أمريكا وفي خارجها بشغف مشهود وفضول كبير تطور فضيحة العلاقة العاطفية التي قامت بين رئيس لأمريكا، القطب الأعظم، والمتدربة في سن المراهقة، المأساة تأبي إلا أن تتكرر إذ كان المكتب البيضاوى الذي تؤخذ فيه أهم القرارات التي تمس أمن وسلامة دول العالم الساحة التي نمت فيها هذه العلاقة وتكشفت في التحقيقات أبعادها وآثارها الضارة على هيبة منصب الرئاسة وليس فقط المكتب البيضاوي.
  • رابعاً: شهد المكتب البيضاوي بين ما شهد، مرحلة مهمة من مراحل تردي الصحة العامة للرئيس جو بايدن. لم يغب عن وعي ملايين الأمريكيين منظر رئيسهم في المكتب البيضاوي وهو يتلعثم في النطق بالتوجيهات الرئاسية والأحاديث الصحفية.
    يعتقد الرئيس الأمريكي أن الأساليب الغريبة التي انتهجها والأهداف الأشد غرابة التي اختطها لحكومته كفيلة بوقف انحدار أمريكا إن لم تؤد إلى استعادة عظمتها. لا يوجد شيء ملموس ولا دليل معتبراً كافياً لإقناعنا بوجاهة هذا الاعتقاد.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى