أمريكا وإفريقيا.. شراكة على المفترق

كتبت يسرا الحربي, في الخليج:
تمر العلاقات الأمريكية-الإفريقية بمرحلة تعكس ما يشبه إعادة تعريف للأولويات، حيث أفرزت التطورات الأخيرة مؤشرات متراكمة على تآكل الثقة السياسية بين الجانبين. فبعيداً عن الخلافات التي نشبت بين واشنطن وبريتوريا – على خلفية اتهام جنوب إفريقيا بدعم موسكو ورفعها دعوى إبادة جماعية ضد إسرائيل – فإن ما برز على السطح هو ميل أمريكي متزايد نحو الانكماش، عبّرت عنه سلسلة إجراءات عقابية، منها تخفيض المساعدات، والحديث عن استبعاد جنوب إفريقيا من قانون «أجوا»، وتفعيل برامج لجوء خاصة ب «الأفريكانز»، وهو ما مثّل، في مجمله، تحوّلاً من أدوات الشراكة إلى آليات الضغط السياسي.
لكن هل كانت هذه الإجراءات تعكس قراءة استراتيجية دقيقة للتحولات الإفريقية؟ أم أنها مجرد رد فعل على مواقف سيادية بدأت بعض العواصم الإفريقية في تبنيها تجاه القضايا الدولية الكبرى؟ وهل يمكن أن تستمر واشنطن في معادلة «الردع السياسي» من دون أن تخسر عمقها الرمزي والتاريخي في القارة؟
وما يزيد من عمق الإشكال أن مؤشرات التراجع الأمريكي تجاوزت الإطار الرمزي لتطول البنية المؤسسية للعلاقات، إذ كُشف عن خطط لإغلاق ست سفارات إفريقية، وتقليص الحضور القنصلي، بالتوازي مع فرض قيود تأشيرات شملت عشر دول، ومهلة إنذار ل 25 دولة أخرى. هذه الإجراءات، وإن بدت مدفوعة بمنطق أمني، تعكس تحولاً أوسع في طريقة تعامل الولايات المتحدة مع إفريقيا: من شريك استراتيجي إلى ملف إداري هامشي. وهذا ما يُعيد إلى الأذهان لحظة الانكفاء التي أعقبت الحرب الباردة، حين ظنت واشنطن أن سحب قواتها، وتقليص مساعداتها، لن يترك فراغاً ذا تبعات.
لكن، هل يعيد التاريخ نفسه؟ وهل تملك إفريقيا اليوم ترف التراخي في مواجهة ما يمكن تفسيره كإعادة ترتيب للأولويات أو إعادة تموضع من قبل شريك بحجم الولايات المتحدة؟ أم أن تعدد الخيارات أمام القارة يتيح لها رسم معادلات جديدة، أكثر توازناً واستقلالية من أي وقت مضى؟
وفي ظل هذا الاسترجاع التاريخي، تظهر قمة الأعمال الأمريكية-الإفريقية التي عُقدت في لواندا (22-25 يونيو/حزيران2025) ليس كمجرد فعالية اقتصادية، بل كمحطة لقياس منسوب الثقة المتبقي. ورغم الرسائل التي حاولت الإدارة الأمريكية تمريرها عن «تحول استراتيجي نحو الدبلوماسية التجارية»، فإن القمة عكست، بجلاء، حجم الفجوة في التصورات. فقد عبّر مسؤولون أفارقة عن امتعاضهم من السياسات التأشيرية التقييدية، ومن نهج العقوبات الجمركية، وغياب الشفافية في التعاملات التجارية. كما أن التركيز على «ممر لوبيتو»، رغم أهميته اللوجستية، بدا في أعين الكثيرين محاولة تكتيكية لا ترقى إلى مستوى المبادرة المتكاملة، لغياب الأطر التنموية المصاحبة، وعدم وضوح الرؤية بشأن نقل التكنولوجيا أو تمكين الكوادر المحلية.
فهل يكفي التركيز على البنية التحتية واللوجستيات لإعادة بناء الشراكة؟ أم أن الرهان الحقيقي يكمن في الاستثمار برأس المال البشري، ونقل المهارات؟ وهل ما تزال واشنطن ترى القارة كفرصة، أم كعبء يجب احتواؤه وتقييده؟
وإذا كانت واشنطن قد اختارت تقليص أدوات نفوذها الناعمة – من التعليم إلى الصحة والمساعدات التنموية – لصالح التركيز على صفقات استثمارية مرهونة بالامتيازات الجيوسياسية، فإن هذا التحول من «المساعدة مقابل الولاء» إلى «الصفقة مقابل النفاذ» يعكس ضيق أفق استراتيجي، ويُخضع العلاقة مع القارة لحسابات قصيرة المدى.
في المقابل، فإن القوى المنافسة – خصوصاً الصين وروسيا – لم تكتفِ بمراقبة الفراغ، بل سارعت إلى ملئه بخطوات متدرجة. الصين، على سبيل المثال، أعفت 99% من صادرات الدول الإفريقية من الرسوم الجمركية، وأطلقت برامج واسعة للتدريب العسكري والمدني، ووسعت أدوات التمويل والبنية التحتية، وحرصت على تأطير ذلك ضمن سردية «التعاون جنوب-جنوب». أما روسيا، فقد استخدمت أدوات غير تقليدية، مثل الشركات الأمنية الخاصة، للتمدد في ساحات النزاع، ونجحت في تحويل النفوذ السياسي إلى مكاسب أمنية واقتصادية ملموسة.
لكن التغير الأكثر أهمية ليس خارجياً، بل داخلي إفريقي بامتياز. فخلال قمة الأعمال الأمريكية-الإفريقية، عبّرت العديد من العواصم الإفريقية عن مواقف أكثر وضوحاً، تعكس نضجاً متزايداً في إدراك الذات الإقليمية. لم تكن الرسائل موجهة لواشنطن وحدها، بل لجميع القوى الدولية: إفريقيا لم تعد سوقاً فقط، بل هي شريك مشروط، لم تعد تكتفي بالمساعدات، بل تطالب بنقل المعرفة والتكنولوجيا، لم تعد تتفاعل بمنطق الحاجة، بل بمنطق المصلحة السيادية. ويبقى التساؤل: هل تنجح القارة الإفريقية في تحويل هذا الوعي المتقدم إلى مواقف تفاوضية أكثر استقلالاً؟
في ضوء ذلك، يبدو أن القارة بصدد إعادة تعريف علاقاتها الدولية من منظور جديد، يسعى إلى تنويع الشراكات وتوازنها، وبناء مسارات تعاون تعزز مناعتها الاستراتيجية. أما واشنطن، فباتت أمام خيارين: إما أن تُعيد تموضعها بسياسات تعترف بالتحولات العميقة في القارة، وتُفعّل أدواتها السياسية والاقتصادية والأمنية بروح شراكة جديدة، أو تواصل الانكفاء، تاركة الساحة لآخرين أكثر مرونة، وأعلى استعداداً للالتزام طويل الأمد.