ألمانيا في مُفترق طُرُق بَعد عَطَل إشارة المُرور
كتب مصطفى القرة داغي, في “العرب” :
الطريقة التي تعامَل بها شولتز مع لندنر كانت سابقة لم يَسبقه إليها مُستشار آخَر، بَيّنَت ضُعفه وقِلّة خِبرته سِياسِيا، ولم تكن تليق بمُستشار فيدرالي.
حُكومة إشارة المُرور في ألمانيا، التي تشَكّلت واكتسَبَت تسمِيَتها مِن تحالف ثلاثة أحزاب، هي الاشتراكي الديمقراطي الأحمَر والديمقراطي الحُر الأصفر والخُضُر، باتَت اليوم مِن الماضي. فقد انفرط عَقد التحالف بَعد فَشِل زُعَمائه، المُستشار شولتز ولندنر وزير المالية وهابيك وزير الاقتصاد، في توجيه الحُكومة بالمَسار الصَحيح. كان مِن الظُلم تسمِيَتها إشارة المُرور، فالإشارة تعني النِظام، وهي تسَبّبَت في فوضى اقتصادية دَخيلة على النموذج الألماني الذي عُرِف بالاستقرار والنِظام. ولأن الإشارة تُنَظِّم سَير الناس، فيما أربَكَت هذه الحكومة الألمان، وباتوا يَعيشون قلقاً مُستمِراً على لقمة عَيشِهم ومُستقبلهم. بَعد تعَطّل الإشارة، لم يَعُد هُناك سِوى طَريق واحد تمضي فيه النُخبة السياسة الألمانية لإعادة الاستقرار إلى البلاد، مِن خلال انتخابات جَديدة، يَجب ألا تتأخّر بسبب تكتيكات حِزبية، لتشكيل حُكومة جَديدة مُتماسِكة، وإعادة ألمانيا إلى مَكانتِها التي تستحِق.
إن الطريقة التي تعامَل بها شولتز مع لندنر كانت سابقة لم يَسبقه إليها مُستشار آخَر، بَيّنَت ضُعفه وقِلّة خِبرته سِياسِياً، لم تكن تليق بمُستشار فيدرالي. نعَم التحالفات هي عِلاقات مَصالح لا صَداقات، مع ذلك على المَرء أن يَرتَقي إلى مُستوى المَسؤولية أمام الناس، وهو عَكس ما فعله شولتز، الذي لم يَعُد يُمَثل كحِزب كلاسيكي ديمُقراطي، نموذجاً يحتذى. فهو يُحاول تأخير التصويت على الثقة، سَعياً لتمرير أجنداته بمُساعدة المُعارضة، مِمّا يُظهِر انعِزاله عَن الواقع، وانعِدام شعوره بالمَسؤولية، واهتمامه بمَصلَحته ومَصلحة حِزبه الذي صَفّق له دقيقة على عَزله لليندنر بَدَل انتقاده.
◙ البَعض يَخشى من أن ينتهي الأمر بألمانيا قريباً إلى ما انتهت إليه اليوم الكثير مِن الدول الغربية مِن صُعود لليمين واحتمالية وصوله إلى السُلطة
حين تُغادر حُكومة إشارة المُرور سَتترك خلفها كومة ملفات عالقة، كالكساد وتراجُع التصنيع وانعِدام النمو وتقَلّص الناتِج المَحَلي وتدَهور الاقتصاد والهجرة، يَجب على الحُكومة التي ستَحل مَحَلها التعامل مَعها بحِكمة وجُرأة، أي سَيَكون عليها مُواجهة الكثير مِن التحَدّيات، كتعزيز الاقتصاد واعتماد سياسة ضَرائِب وطاقة جَديدة والحَد مِن الهجرة، إضافة إلى تَدعيم الأمن القومي مِن خلال دَعم الجَيش والشُرطة، لحِماية البلاد داخلياً مِمّن يَسعون لنَخرها مِن الداخل، وخارجياً مِن حُكّام مَعتوهين يَسعون للتوَسّع مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحلفائه. إذ لا تزال ألمانيا تتمَتع بالمُتطلبات اللازمة لتبقى واحِدة مِن القوى الاقتصادية والدُوَل الصِناعية الرائِدة، لكن تحتاج الشَركات والعامِلون فيها إلى رياح مُواتية بَدلاً مِن رِياح السياسة الحالية المُعاكِسة. ألمانيا في حاجة اليوم، أكثر مِن أي وقت مَضى، إلى تغيير يُعيد الروح للقيم الألمانية، كالعَمَل الجاد والدِقّة، ومُحاربة ثقافة الكراهية واستغلال النِظام التي نَخَرَت المُجتمع.
لتحقيق ذلك لا بُد أولاً مِن تخفيض الأعباء الضَريبية على الجَميع أفراداً وشَركات. ثانياً يَجب تعديل النظام التقاعُدي الذي يُعتبر الأسوَأ أوروبياً، وزيادة المَعاش التقاعدي لمَن بلغوا سِن التقاعد لِمِقدار يَضمَن لهم عيشاً كريماً، بمُقابل إلغاء ما يُسمّى بأموال المواطنين التي تُدفع للعاطلين، واستبدالها بضَمان اجتماعي أساسي يَضمَن الكفاف لمَن لا يَجد عَملاً بالفعل، وإذا كان هناك مَن لا يَرغَب بالعمل فعلى الدولة افتراض أنه ليسَ في حاجة إليه، بالتالي حِرمانه مِن الضَمان الأساسي، مِن مُنطلق العدالة لِمَن يستيقظون صباحاً للعَمل يومياً، ويقومون بتمويل دولة الرفاهية الألمانية مِن ضَرائبهم!
يَجب أيضاً جَذب العَمالة الماهِرة تحديداً، مِن خلال دَعم الطاقات المَحلية أو استقدامها مِن الخارج عِبر إنشاء وكالة هجرة فدرالية، لإيصال رسالة واضِحة أن ألمانيا تعتمِد هجرة للعَمَل، وليسَ للحَبَل والاستفادة مِن المُساعدات!
يَجب أن تُصبح الطاقة أرخَص، وأن يَتم الاستثمار فيها وفي البنية التحتية أكثر، لأن الصِناعة تعتمِد عليها، ويتحَقق ذلك مِن خلال تطوير الطاقة المُتجَدّدة، مَع عَدم إخراج مَحَطات الطاقة المُتاحة كالفحم من الخِدمة، إلا حين تتوَفّر بَدائل بنفس المُستوى.
أخيراً، يَجب إجراء تغيير حَقيقي بمَلف اللجوء، فالدولة تنفق عليه مليارات لا يَبدو أنها سَتتوقف، لِما توَفِّره ألمانيا مِن خَدَمات يَسيل لها اللعاب، في الوقت الذي تعاني فيه بناها التحتية من التقادم والتآكل، لذا بَعض الولايات مِثل بايرن رَسَمَت طريقها الخاص للتعامُل مع الأمر، عِبر تسريع النَظَر بطلبات اللجوء، وتوفير عَمل بوَظائف غَير رِبحية، وتخفيض مَزايا المَشمولين بالتَرحيل، أو خَفضَها إلى مُستوى الكفاف. كل هذا لن يتحَقق دون مُحاربة البيروقراطية مِن أكبر مؤسسة وسُلطة في البلد إلى أصغَرها، ورقمَنة الإجراءات الإدارية بأسرَع وقت مُمكن!
◙ ما يَحدث اليوم مِن أزمة اقتصادية شَبيه بما حَدَث عام 1929، حين ضَربت الأزمة الاقتصادية العالمية الاقتصاد الألماني الذي كان مُزدَهِراً
بخلاف ذلك، يَخشى البَعض من أن ينتهي الأمر بألمانيا قريباً إلى ما انتهت إليه اليوم الكثير مِن الدول الغربية، كالسويد وإيطاليا والنمسا والدنمارك وفرنسا وأميركا، مِن صُعود لليمين واحتمالية وصوله إلى السُلطة، وهو أمر يُعَدُّ كابوساً بالنسبة إلى الألمان الذين اكتووا ومَعهم كل العالم بناره، بالتالي لا يُريدون ولا يَتخَيّلون تكراره.
ما يَحدث اليوم مِن أزمة اقتصادية بَدأت تلقي بظلالها وتداعياتها على السياسة، شَبيه بما حَدَث عام 1929، حين ضَربت الأزمة الاقتصادية العالمية الاقتصاد الألماني الذي كان مُزدَهِراً. فقد انهار الإنتاج وأعلنت الشَركات إفلاسها، فارتفعت البَطالة وانخَفَضَت الأجور وعَم اليأس، وخلال سَنوات مَعدودة تغَيّرت ظُروف الناس وأمزِجَتَهُم، وحينما فَشِلت الحُكومة في التعامُل مَع الأمر، تفَكّك آخر ائتِلاف حاكِم لجَمهورية فايمار برئاسة برونينج، كما تفَكّك ائتِلاف إشارة المُرور مؤخراً برئاسة شولتز. وبما أن مَصائِبُ قوم عِند قوم فوائِدُ، حَصَد الحِزب النازي الفوائِد السياسية حينها بفوزه في انتخابات 1932، وبَعدها بأشهُر تم تعيين هتلر مُستشاراً.
فهل سَتكون مَصائِبُ قوم إشارة المُرور مِن الأحزاب التقليدية، فوائِدُ عِند قوم حِزب البَديل وسارة فاغنكنشت؟ ربما ليس الآن. فالجَولة القادمة، في حال تم سَحب الثِقة في ديسمبر وإجراء انتخابات مُبَكِّرة في فبراير، شبه مَحسومة لصالح يَمين الوَسَط، الذي يمثله الاتحاد المَسيحي الديمقراطي الاجتماعي، والذي سَيُعطي له الألمان الفرصة الأخيرة، باعتباره من الأحزاب الكلاسيكية الديمقراطية، لأنهم لازالوا حريصين على الأخيرة “الديمقراطية”، كي يتحَمّل المَسؤولية ويَعمل على إنقاذ البلاد مِمّا أوصَلتها إليه سياسات أحزاب اليَسار ويَسار الوَسَط. ولكن في حال فشَلِهم، فسَيُعاقبُهم الألمان جَميعاً بَعد أربَع سَنوات بانتخاب البَديل وسارة فاغنكنيشت، وحينها لات ساعة مَندَم، لأن الديمقراطية ستصبح حينها من الكماليات، ولن تَبقى في قِمّة سُلّم أولويات الألمان.