ألمانيا تستعد لسياسة دفاعية جديدة

كتب د. ناصر زيدان في صحيفة الخليج.
أضفت الانتخابات التي جرت مؤخراً في ألمانيا أجواء سياسية جديدة على البلاد. وما بعد 23 شباط/فبراير2025 ليس كما قبله. فالمستشار الجديد رئيس تحالف القوى الديمقراطية المسيحية فريدريك ميريتس وضع عناوين لسياسة دفاعية متقدمة، قبل الانتهاء من تشكيل حكومته العتيدة بالاتفاق مع الحزب الاشتراكي وفي الخطة المقترحة طموحات كبيرة، وتفاؤل بقدرة برلين وحلفائها الأوروبيين على تأمين حماية للقارة من دون الاعتماد على واشنطن.
يقترح ميريتس توفير مبلغ 500 مليار دولار إضافي على موازنة الدفاع، للاستثمار في تأمين صناعات عسكرية متطورة، تنافس ما هو موجود في الترسانة الروسية وتستغني عن الإمدادات الأمريكية. كما تتضمن تأسيس جيش كبير وإعادة فرض التجنيد الإجباري على الشباب والشابات الألمان، بما يقلب صفحة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي استمرّت ما يقارب 80 عاماً ويخرج البلاد من المُقيدات التي وضعها الحلفاء المنتصرون على ألمانيا الهتلرية المهزومة في ذلك الوقت ومن هذه المقيدات تدمير البنى التحتية العسكرية المهمة وعدم إعادة تأسيس جيش مقاتل بأسلوب متطور وقد انضمت برلين الغربية لاحقاً إلى حلف شمالي الأطلسي الذي تكفل بحمايتها، بينما كانت ألمانيا الشرقية التي انهارت في العام 1990 وعادت إلى الوحدة مع الغرب، جزء من منظومة الاتحاد السوفييتي السابق.
الخطة الدفاعية الألمانية الموعودة متناسقة مع مجهودات أوروبية تشمل دول الاتحاد ومعهم بريطانيا والنروج، ذلك أن حلفاء الولايات المتحدة على الضفة الشرقية الشمالية من الأطلسي، شعروا أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تضع شروطاً مالية تعجيزية أمامهم وهي أهملتهم في سياق حراكها الدولي، لا سيما في ملف الحرب في أوكرانيا وتقود مباحثات مع روسيا لوقف هذه الحرب من دون التنسيق معهم ومن دون أن تأخذ مصالحهم العليا في الاعتبار ووصل بها الأمر إلى حد التهديد بالانسحاب من حلف «الناتو» أو تقليص المساهمة الأمريكية في أعبائه المالية والعسكرية.
الخلاف المستجدّ بين الحلفاء، له أسباب متعددة، ولكن الأساسي فيه هو ما يتعلّق بالتعاون حول مآلات الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ففي بداية الحرب قبل 3 سنوات، كان الأمريكيون متحمسون لاستمرارها وبالغوا في طلب دعم كييف التي كادت أن تنهار أمام القوات الروسية، بينما عمل الأوروبيون على تفعيل المفاوضات وتوقيف الحرب وقد زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موسكو لهذه الغاية وهو ما لم ترتح له الإدارة الأمريكية في حينها وكانت تهاجم سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقوة وتتهمه بمحاولة الهيمنة على أوروبا. واندفعت واشنطن في الحماسة ضد روسيا إلى حد تسليم كييف طائرات حربية متطورة من طراز أف 16 والسماح لها باستخدام الصواريخ بعيدة المدى.
انقلب المشهد مع عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض مطلع العام الحالي، وهو يجتهد لإيقاف الحرب بأي ثمن ومن دون أن ينسّق مع حلفائه الأوروبيين، وهؤلاء يعتبرون الموضوع أوروبياً بالدرجة الأولى، ومن واجب واشنطن التشاور معهم في أي خطة مقترحة ورأيهم يتركّز على ضرورة عدم توقف الحرب حالياً، لأنه سيعطي روسيا انتصاراً وسيدفع الأوروبيين فاتورة هذا النصر الغالي في المستقبل ويعتبرون بعد كل ما حصل أن أوكرانيا بوابة دفاع عن أوروبا، ولا يجوز تشريع أراضيها أمام الخصوم التقليديين في موسكو واندفاعة ترامب لإنهاء الحرب بأي ثمن، لن يكون في صالح الأمن الأوروبي وبريطانيا الحليفة الأقرب لواشنطن، تؤيد هذه الرؤية الأوروبية، رغم خروجها من الاتحاد.
عقد الأوروبيون عدة اجتماعات لمناقشة موضوع الحرب في أوكرانيا، ولوضع خطة دفاعية خاصة تحمي القارة بإمكاناتها الذاتية وبين هذه الاجتماعات قمة عقدت في لندن ومؤتمر لرؤساء أركان الجيوش الأوروبية في باريس، لكن الواضح أن العبء الأكبر في تمويل خطة الحماية الأوروبية ستتحمله برلين، برغم مشاركة بريطانيا وفرنسا كونهما عضوين دائمين في مجلس الأمن الدولي وتمتلكان أسلحة نووية، الاقتصاد الألماني يعتبر رافعة تقليدية لأي أكلاف أو إخفاقات مالية، كونه رابع اقتصاد في العالم، ويتمتع بمميزات تفاضلية كبيرة.
الحكومة الألمانية الجديدة التي ستتألف من أحفاد المستشارين السابقين، الديمقراطية المسيحية أنجيلا ميركيل والاشتراكي شرودر وهي تعمل عكس توجهاتهما السابقة، أما الآخران فكانا قد أرسيا علاقة تجارية واقتصادية متطورة مع روسيا واستحصلا منها على نفط وغاز بأسعار تفضيلية خدمت الاقتصاد الألماني، وأنشأت إدارتهما السابقة بواسطة شركات خاصة خطي إمداد عبر بحر البلطيق – نورد ستريم 1 و2 – لإيصال الغاز الطبيعي بأفضل طريقة للقارة بمجملها، لكن الخطين تم تعطيلهما منذ بداية الحرب في أوكرانيا وقد انفجرت عبوة بالخط الثاني ولا يمكن إصلاحه بسهولة والواضح أن الأمريكيين لا يؤيدون منسوب العلاقة بين أوروبا وروسيا كما كانت على أيام ميركيل وشرودر، بينما روسيا تحنُّ إلى تلك الحقبة.
تحاول روسيا دعم الجماعات اليسارية واليمينية المتشددة في ألمانيا، تحت شعار حماية التقاليد وهي تلتقي مع الملياردير الأمريكي إيلون ماسك في ذلك، خصوصاً في تأييده الأخير لليمين، لكن الأجواء تؤكد أن منسوب التباعد بين ألمانيا وروسيا يزداد.