أفريقيا وثنائية الفوضى والاستبداد
كتبت سمير حمدي في صحيفة العربي الجديد:
تصاعدت في العشرية الأخيرة حمّى الانقلابات في الدول الأفريقية، خصوصا منها دول جنوب الصحراء، وترافقت مع حالة من عدم الاستقرار والفوضى والحروب الأهلية. ويبدو أن الصعوبات التي تواجهها البلدان الأفريقية التي شهدت انقلاباتٍ حديثة أو قديمة في إيجاد حل لاستكمال مراحل تطورها السياسي منذ الاستقلال جعلها تقع تحت وطأة ثنائية مقيتة هي الاستبداد والفوضى.
بمراجعة تاريخ الدول الأفريقية، سواء جنوب الصحراء أو شمالها، نجد أنها ظلت تعاني من أزمات متتالية بين استقرار وهمي أو فوضى عارمة تصل إلى حد التقاتل الأهلي، ففي خلال هذه الفترة التي تجاوزت الستين سنة، كانت حالات عدم المساواة، والفقر، وانعدام الأمن الغذائي، وعدم شفافية الحسابات العامة، والفساد، والإفلات من العقاب والظلم، والصراعات العرقية والدينية، الحقيقية منها والمفتعلة، هي السائدة. ومن السهل تحميل الاستعمار الخارجي مسؤولية كل هذه الكوارث، لأن القوى الإمبريالية لعبت بالفعل دوراً سلبياً، إلا أن هذا العامل لا يكفي وحده لفهم ما يجري، لأن العوامل الداخلية كان لها الدور الأهم في استمرار التدخل الأجنبي، وفي الوقت نفسه، في عجز هذه الدول عن تحقيق التنمية والتطوّر.
يمثل الدكتاتور الأفريقي حالة خاصّة من الاستبداد، تجعله يربط استقرار البلاد بوجوده في الحكم، ومثل الهدية المقدّمة لطفلٍ يحملها بغيرة، حتى لا ينتزعها منه أطفالٌ آخرون، فإن الدكتاتور الأفريقي لم يعد مستعدّاً للتخلي عن السلطة. ونظراً إلى الظروف التي أحاطت بوصوله إلى الحكم، حيث إنه لم يفكّر قط في أن يصبح رئيساً لبلاده، وهذا عامل نفسي مهم، لذلك فهو ممتنٌّ للغاية للذين مكّنوه من الوصول إلى السلطة، سواء عبر انقلاب عسكري أو حتى عبر الانتخابات، فإن مخطّطه الأساسي ينحصر غالباً في الحفاظ على بقائه، سواء عبر الارتباط بطغمة عسكرية أو انقلاب دستوري، وحتى الارتهان لقوة أجنبية مهما كانت، سواء كانت المستعمر السابق أو مجموعات من المرتزقة أو أي قوة أجنبية تساعده على السيطرة.
استقرار المقابر الذي يفرضه نظام الاستبداد عبر قمع المعارضة وتصحّر المشهد السياسي يجعل من فكرة الانتقال السلمي للسلطة أمرا صعب المنال، وهو ما يفضي غالبا إلى ثورات عنيفة أو إلى الفوضى والحرب الأهلية كما نرى في حالات الصومال ما بعد سياد بري والسودان ما بعد عمر البشير.
أصبحت حالة الفوضى المترتبة عن انهيار أنظمة الاستبداد سياسة مقصودة لذاتها
وما زاد في تفاقم حالة الفوضى تحوّل هذه الأنظمة إلى مجرّد واجهة لصراعات دولية، فالنزاعات الإقليمية في أفريقيا ليست سوى الأشكال المرئية للصراعات الداخلية، سواء بين الدول الغربية وروسيا والصين، أو حتى من داخل دول “الناتو” ذاتها من أجل السيطرة على الفضاء الجيواستراتيجي لمنطقة الساحل، والوصول إلى الثروات الجوفية غير الخاضعة للسيطرة. ولم تتردّد القوى الأخرى في أخذ نصيبها من “الفطيرة”. كان لانهيار النظام السياسي الليبي تداعيات مباشرة في دول الساحل، أبرزها مالي والنيجر وبوركينا فاسو ولا يمكننا استبعاد السودان وتشاد من تأثير العوامل الخارجية نفسها التي تدخّلت لدعم خليفة حفتر في الشرق الليبي. ومن ثم، فإن انتشار الأسلحة وحرية تداولها، وتمكين الجيوش الخاصة بمرتزقة أو بدونهم، وتدفقات الهجرة غير الخاضعة للرقابة، ساهمت، إلى حد كبير، في تفاقم التوترات الداخلية. وقد أدّى ذلك إلى تفضيل الاستخراج غير المنضبط للثروات الأفريقية، وخصوصا المعادن النادرة. إن بعض الجيوش الأفريقية التي تظاهرت بأنها بصدد التحرّر من النفوذ الفرنسي والاتحاد الأوروبي انتهى بها الأمر إلى التحالف مع مرتزقة فاغنر وقوى أخرى ترغب في الهيمنة على الثروات الأفريقية مقابل ضخّ الأسلحة ومزيد من نشر الفوضى. وسواء تعلق الأمر بالانقلابات العسكرية أو الدستورية، فإن الهدف واحد، تبادل المصالح بين الحكّام الراغبين في تأبيد حكمهم وقوى دولية طامعة في الحصول على مزيد من المكاسب.
أصبحت حالة الفوضى المترتبة عن انهيار أنظمة الاستبداد سياسة مقصودة لذاتها، وكذلك منع التطور السياسي للدول الأفريقية، وهو ما جعل بناء أنظمة ديمقراطية مستقرّة مطلبا بعيد المنال في ظل التحالفات بين حاملي السلاح والقوى الأجنبية، ولكن في سياق حرب مستنقعية في منطقة الساحل من دون انتصار أو فعالية حقيقية على المديين المتوسّط والطويل، وهو ما يمنع بناء أنظمة سياسية فعلية، فلا يمكن، مثلاً، أن نتصوّر أن مليشيات الدعم السريع في السودان مثلا قادرة على حكم الدولة، حتى وإن تمكّنت من تفتيت الجيش السوداني، لأنها ببساطة مبنية على فكر سياسي مليشياوي، يقوم على منطق الغنيمة، وهو ما يسمح باستمرار “التجارة” غير المتكافئة في استخراج المواد الخام وتصديرها. وهو ما يعني أن إمكانية بناء أنظمة وطنية ديمقراطية ما زال مستبعدا في ظل انعدام أي إرادة سياسية للسعي نحو حل هذه المشكلات المزمنة.