رأي

أفريقيا في‮ ‬دور الحكم بين إيطاليا وفرنسا؟

كتب عبد الحميد اجماهيري في العربي الجديد.

قد تجد القارّة الأفريقية‮ ‬نفسَها ‬في‮ ‬وضعية الحَكَم بين إيطاليا وفرنسا، ‬في ما‮ ‬يتعلق بالعلاقة مع الدول القوية في‮ ‬المجرّة الأوروبية‮. ‬وبالرغم من أن قادةً أفارقةً اجتمعوا‮ ‬يومي‮ 82 ‬و92 الشهر الماضي‮ (يناير/ كانون الثاني) ‬في روما في‮ ‬إطار قمّة إيطالية أفريقية،‮ ‬لا‮ ‬يحبذون القيام بدور التحكيم‮ ‬هذا،‮ ‬بَيْد أنّ الدوافع والحسابات الجيوستراتيجية‮ ‬تضع القارّة في‮ ‬موقع ميزان الجدوى،‮ ‬من حيث التعامل مع إيطاليا وخطتها الجديدة في‮ ‬التعاون مع القارّة أو مع فرنسا،‮ ‬والتي‮ ‬يبدو أن مستقبلها قد صار،‮ ‬ولو مرحليا، خلفها، وقد تلجأ إلى محاولة استعادة دورها قوة سابقة في‮ ‬القارّة‮.
‮لقد وضعت إيطاليا للقمّة الإيطالية الأفريقية عنواناً بِشقَّين،‮ ‬الأول‮ ‬يُفتي‮ ‬بقطع الطريق على الجيوسياسة الافتراسية،‮ (‬لا للافتراس كما‮ ‬يقول الشعار‮) ‬في‮ ‬إشارة‮، بالكاد، مبطّنة،‮ ‬إلى الشريك الفرنسي،‮ ‬للقارّة‮. ‬ولعل هذا التأويل لا‮ ‬يبتعد عن‮ ‬المضمر الحقيقي‮ ‬الذي‮ ‬يحمله‮ ‬الشعار،‮ ‬إذا ما استحضرنا الهجوم العنيف الذي‮ ‬قادته‮ ‬رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني،‮ ‬لمّا كانت في‮ ‬المعارضة،‮ ‬ضد فرنسا‮، ‬وصل إلى حد‮ ‬اتهام مباشر لباريس‮ ‬بالمستعمر الدائم‮!
أما الشق الثاني‮ ‬فيتحدّث عن‮ “‬النِّدِّية‮” ‬بين القارة السمراء وشريكها الإيطالي‮،‮ ‬ومن ورائه أوروبا،‮ ‬ثم مجموعة السبع الكبار‮ (‬G7‬)،‮ ‬التي‮ ‬تترأسها إيطاليا حاليا، ‬نِدية تختط لها طريقا بين النزعة الإحْسانية التي‮ ‬طبعت تعامل الأوروبيين والقوى الكبرى مع الأفارقة، وبين السيطرة على كل ثروات البلاد وسياساتها ومؤسساتها… إلخ‮.

الدوافع والحسابات الجيوستراتيجية‮ ‬تضع القارّة في‮ ‬موقع ميزان الجدوى،‮ ‬من حيث التعامل مع إيطاليا وخطتها الجديدة في‮ ‬التعاون مع القارّة أو مع فرنسا

‮‬وفي‮ ‬التوجّه الجديد،‮ ‬أنضجت روما،‮ ‬كما هو معلن،‮ ‬مقاربة مغايرة للتعامل مع القارة السمراء،‮ ‬التي‮ ‬كانت تتلخص إلى‮ ‬عهد قريب‮ ‬في‮ ‬تدفق المهاجرين،‮ ‬لا سيما القادمين من دول جنوب الصحراء والساحل‮. ‬وارتباط جزيرتها‮ ‬لامبيدوزا‮ ‬بالمشاهد المرعبة للجثث الطافية فوق المتوسّط‮،‮ ‬مع تشدّد أمني‮ ‬إيطالي‮ ‬وأوروبي‮ ‬غير إنساني‮. ‬وهو نضج نقلَ‮ ‬الحكومة الجديدة،‮ ‬التي‮ ‬بَنتْ‮ ‬فوزها السياسي‮ ‬على خطاب‮ ‬يميني‮ ‬متطرّف‮،‮ ‬من حكومة تدعو إلى بناء‮ “‬أسوار في‮ ‬وجه الهجرة‮” ‬أو‮ “‬متاريس حصار بحري” ‬لمواجهة الأفارقة الحالمين بالإلْدورادو الأوروبي،‮ ‬إلى حكومة طوَّرت خطابا تنمويا تشاركيا لمعالجة المشكلة من الأصل،‮ ‬مع استحضار‮ ‬حاجتها إلى لعب دور مركزي‮ ‬في‮ ‬قضية إدارة قضية الهجرة‮. ‬ولعله نضج تكمن وراءه حقائقُ‮ ‬الفشل القاسية في‮ ‬هزم حشود المهاجرين،‮ ‬تتمثل أساساً في‮ ‬ارتفاع نسبة الهجرة بما‮ ‬يفوق‮ خمسين في المائة‮ ‬في‮ ‬إحصائيات العام الماضي وحده!
في‮ ‬خانة الهجرة، تبدو قمة روما آكثر قربا من المقاربة الأفريقية نفسها‮، ‬حيث تعتبر الأجندة الأفريقية‮ ‬للهجرة‮ ‬التي‮ ‬تولى أمر صياغتها‮ ‬المغرب،‮ ‬باعتبار عاهله‮ “‬رائد الاتحاد الأفريقي‮ ‬حول الهجرة‮” ‬منذ ‮ ‬2018‬ وهو البلد الذي‮ ‬يحتضن المرصد الأفريقي‮ ‬حول الهجرة،‮ ‬باتفاق‮ ‬قادة القارّة‮. ‬وهذه الأجندة هي‮ ‬قاعدة المقترح الأفريقي‮ ‬إلى الأمم المتحدة،‮ ‬والتي‮ ‬تركز على اعتبار الهجرة حقل إمكانات أكثر منه ألغام مخاطر،‮ ‬وتعتبر القارة نفسها فضاءً‮ ‬للهجرة باعتبار أن‮ ثمانين في المائة‮ ‬من الهجرات الأفريقية تحدث داخل القارة نفسها،‮ فضلاً عن فشل كل المقاربات الأمنية المحضة،‮ ‬والتي‮ ‬تجمع في‮ ‬سلة واحدة‮ ‬الضحايا والمجرمين من المتاجرين في‮ ‬البشر وأرباب شبكات التهجير اللاشرعية‮.‬

رهان إيطاليا‮ ‬لا‮ ‬يمكن فهمه إلا من خلال تقلبات‮ ‬جيوستراتيجيا الطاقة‮. ‬ومعناه أن تكون المركز الدوار‮ ‬للطاقة التي‮ ‬تُؤَرِّق أوروبا وتضعها دوما تحت الوصاية الروسية‮

وإذا كان بعض المنتقدين‮ ‬يرون في‮ ‬خطة روما سعياً نحو تقديم نموذج للكيفية التي‮ ‬يدير بها اليمين‮ ‬المتطرّف قضية الهجرة،‮ ‬فإن رهان إيطاليا‮ ‬يذهب كذلك إلى أبعد من ذلك‮، ولا‮ ‬يمكن فهمه إلا من خلال تقلبات‮ ‬جيوستراتيجيا الطاقة‮. ‬ومعناه أن تكون المركز الدوار‮ ‬للطاقة التي‮ ‬تُؤَرِّق أوروبا وتضعها دوما تحت الوصاية الروسية‮. ‬بسبب الهشاشة الأوروبية‮ أمام معضلة الطاقة القادمة من بلاد الدب الروسي‮.‬
ولعل في‮ ‬اختيار اسم خطة‮ “‬ماتي‮” ‬ما‮ ‬يدلّ على هذا الرهان،‮ ‬ودوره المركزي‮ ‬في‮ ‬استراتيجية روما الأفريقية‮.‬ ومعروف أن إنريكو ماتيي،‮ ‬الذي‮ ‬اختارت‮ ‬رئيسة الحكومة‮ ‬التيمُّن به في‮ ‬تسمية خطتها، هو المؤسّس‮ ‬الحقيقي‮ ‬والفعلي‮ ‬للشركة الوطنية للمحروقات الإيطالية‮ “إيني”‬‬، وعليه، يجمع اختيار اسمه‮ ‬بين مجال تخصصه،‮ ‬و‬هو المحروقات‮، ورمزية مسعاه باعتباره كان رفيقا لكثير من الدول حديثة العهد بالاستقلال، وقد ساعدها في‮ ‬بناء هياكلها‮ ‬ومخزونها وسياستها الطاقية‮. وهو قبل ذلك وبعده‮، ‬يمثل‮ ‬القوة التحريرية في‮ ‬بلاده باعتباره قاد سياسة تطهير الآثار الفاشية في‮ ‬مجال الطاقة،‮ ‬كما أثبتتْ‮ ‬ذلك تصفيتُه شركة جيب‮‮ ‬المتهمة بموالاة بينيتو موسيليني‮.‬

لا يغ‬فل المحللون عم أن طموح إيطاليا في‮ ‬لعب الورقة الأفريقية معلن،‮ ‬وهو‮ ‬يحرّكها‮ بالقدر نفسه الذي‮ ‬تعمل به‮ ‬قضية الهجرة الأفريقية

وبالسنة للقارّة‮، ‬فقد نجح وقتها،‮ ‬في‮ ‬خمسينيات القرن الماضي،‮ ‬في‮ ‬بناء شبكة من شركات التنقيب‮ ‬وتكرير‮ ‬البترول في‮ ‬مصر وتونس والمغرب‮،‮ ‬وشجع على فتح أسواق جديدة في‮ ‬القارة لمواجهة المنافسة الكبرى لشركات الدول المستعمِرة،‮ ‬والتي‮ ‬كان‮ ‬يسمّيها “الأخوات السبع‮”! ‬المسيطرة وقتها‮ ‬على‮ ثمانين في المائة ‬من الأعمال البترولية عالمياً‮! ‬ولعل من مكر التاريخ أن بلاده تترأس اليوم‮ ‬تحالف الدول الصناعية السبع، ‬التي‮ ‬كان قيامها في‮ ‬الواقع ردا على نشاط إنريكو ماتيي‮ ‬في‮ ‬تكسير تحالفها في‮ ‬مجال السيطرة على النفط‮.‬
‮على كل‮ٍّ‬،‮ لا يغ‬فل المحللون عم أن طموح إيطاليا في‮ ‬لعب الورقة الأفريقية معلن،‮ ‬وهو‮ ‬يحرّكها‮ بالقدر نفسه الذي‮ ‬تعمل به‮ ‬قضية الهجرة الأفريقية‮. ‬وتتطلع إلى أن تستدرج حاجة أوروبا من‮ ‬الطاقة الأفريقية،‮ ‬بسياسة مغايرة،‮ ‬على الأقل ظاهريا، عن المقاربة الفرنسية،‮ ‬التي‮ ‬جعلت فرنسا دولة نفطية من‮.. ‬باطن التراب الأفريقي‮. ‬ولعل الهدف المعلن أيضا هو تأمين التموين من الطاقة لكامل الاتحاد الأوروبي،‮ ‬بوضع إيطاليا جسرا جغرافيا وسياسيا مع القارّة‮ ‬مبنيّا ‬على قاعدة شراكة قائمة على الندّية،‮ ‬وهي‮ ‬بالمناسبة ليست الندّية الأولى التي‮ ‬تعلنها دول الشمال مع قارات الجنوب. ومع ذلك، سيكون أمام الأفارقة أن‮ ‬يحكموا على جدية المقترح الإيطالي‮ وفعاليته‬‮ ‬على ضوء التجربة الفرنسية‮. ‬وفي‮ ‬السياق ذاته،‮ ‬ولم‮ ‬يخْف‮ ‬سفير الكونغو برازافيل‮ ‬في‮ ‬روما هنري‮ ‬أوكيمبا هذه المقارنة، عندما صرّح (كما نشرت الباريسية لوموند واسعة التأثير‮) ‬”‬إن الإيطاليين فهموا أن المرحلة تغيرت،‮ ‬لهذا لا‮ ‬يعطون الدروس، وهذا إيجابي‮”. ‬كما لا‮ ‬يخفي‮ ‬الجميع التقاطه الرسالة الإيطالية بأنها‮ “رسالة تستهدف المستعمر الفرنسي‮ ‬السابق‮”‬،‮ ‬ومع ذلك، لا أحد‮ ‬يعلن انخراطه اللامشروط في‮ ‬النوايا الإيطالية قبل أن‮ ‬يحكم على ما‮ ‬يتحقق في‮ ‬الميدان‮.‬

سيكون أمام الأفارقة أن‮ ‬يحكموا على جدية المقترح الإيطالي‮ وفعاليته‬‮ ‬على ضوء التجربة الفرنسية‮

‮و‬يبقى‮ ‬أن إيطاليا،‮ ‬التي‮ ‬تعمل لفائدتها كما لفائده أوروبا، قد عبَّأت ما‮ ‬يقارب‮ ‬5‭,‬5‮ ‬مليارات‮ ‬يورو للمشروع‮ ‬الذي‮ ‬تدافع عنه‮، ‬على قاعدة أن الاستثمارات المشتركة بين القارّتين‮ ‬يمكن أن تساهم‮ ‬في‮ ‬إدارة تدفقات الهجرة،‮ ‬إذا‮ ‬ما جرى إطلاقها بمنطق الشراكة والتنمية المشتركة‮! ‬بما‮ ‬يعني‮ ‬ذلك‮ ‬التربية والانتقال الطاقي‮ ‬والتكوين والتشغيل‮ ‬والصحة‮ ‬والماء الشروب والتقلبات المناخية‮. ‬وهوما‮ ‬يعتبره الأفارقة،‮ ‬ومنظمات دولية عديدة مهتمة بالتنمية،‮ ‬المرتكزات المفتاح‮ ‬لكل انتقال طاقي‮ ‬أو‮ ‬غذائي‮ ‬ناجع‮.. ‬ولعل في‮ ‬العرض الإيطالي‮ ‬تكاملا مع ما سبق أن وضعته‮ ‬أفريقيا لنفسها، سواء في‮ ‬أفق‮ ‬2030‮ ‬من خلال خطة الاتحاد الأفريقي‮ ‬أو من خلال أجندة التنمية‮.‬
‮في‮ ‬التنفيذ‮، ‬ينتظر الأفارقة جورجيا ميلوني‮ ‬وفريقها الحكومي‮ ‬لإثبات أن التحكيم سيكون لفائدتها بعد أن جعلت من أفريقيا‮ “‬ما‮ ‬يفوق الأولوية‮”‬،‮ ‬على حد الصحافة الغربية، ‬ومنها الفرنسية ذاتها‮، ‬ذلك أن القَدرَ‮ ‬الاستراتيجي‮ ‬الأفريقي‮ ‬الذي‮ ‬تريد إيطاليا بناءه لنفسها ‬يخدمها على المدى البعيد،‮ ‬هي‮ ‬التي‮ ‬لا تعاني‮ ‬من التراجع‮ ‬الذي‮ ‬تعيشه فرنسا،‮ ‬ولعل في‮ ‬إرادتها بناء نجاحها على فشل فرنسا،‮ ‬ما قد‮ ‬يكون في‮ ‬خدمة القارة ككل… ‬ويحسم التحكيم‮ ‬لصالحها‮!‬

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى