
حسين زلغوط, خاص “رأي سياسي”:

بغضّ النظر عمّا إذا كانت جلسة مجلس النواب المقرّرة اليوم سيكتمل نصابها أم لا، ويكون مصيرها كتلك التي سبقتها منذ شهرين، بعد أن أعلنت قوى سياسية بارزة، وفي مقدّمها القوات اللبنانية والكتائب وحلفاؤهما، مقاطعتها للجلسة، فإن ما سيحصل هو خطوة تتجاوز البعد الإجرائي لتلامس جوهر الأزمة السياسية والمؤسساتية التي تعصف بالبلاد.
المقاطعة “غير رنّانة” شكلاً، لكنها مشحونة دلالات ومواقف، وتعبّر عن قلوب سياسية “مليانة” بالاعتراض والمصالح.
ليست هذه المقاطعة الأولى في تاريخ الحياة النيابية، لكنها تأتي هذه المرة على وقع انسداد شبه شامل بين العديد من المكوّنات السياسية، حيث تتقاطع الأزمات الدستورية والسياسية، ويغيب الأفق الواضح لأي تسوية قريبة حول اقتراع المغتربين. فالخلاف لا يقتصر على جدول أعمال جلسة أو بند خلافي بعينه، أو حرص على حق المغتربين في الاقتراع لكامل أعضاء المجلس، بل يمتد إلى مفهوم إدارة الدولة، وحدود التسويات، ومعايير العمل البرلماني في ظل الانشطار السياسي الموجود.
من منظور القوى المقاطِعة، فإن المشاركة في جلسة تُعقد من دون توافق وطني عريض على مسألة قانون الانتخاب، أو في ظل ما تعتبره “تطبيعاً” مع واقع مختلّ، يشكّل غطاءً سياسياً لمسار لا تريد أن تكون شريكة فيه. المقاطعة هنا تُقدَّم كفعل احتجاجي، ورسالة اعتراض على آلية إدارة المجلس، وعلى ما يُنظر إليه كمحاولات لتجاوز أولويات ملحّة أو فرض أمر واقع تشريعي لا يحظى بإجماع.
في المقابل، يرى خصوم هذا الخيار أن المقاطعة، مهما كانت دوافعها، تُضعف العمل البرلماني وتُعمّق الشلل، وتُحمّل المجلس أعباء إضافية في لحظة تحتاج فيها البلاد إلى كل دقيقة عمل تشريعي. ويعتبر هؤلاء أن البرلمان، حتى في أحلك الظروف، يبقى ساحة الصراع السياسي المشروع، وأن الانسحاب منه لا يُنتج حلولاً بقدر ما يراكم الانقسامات.
لكن القراءة الأعمق للمشهد تُظهر أن المشكلة أبعد من حضور أو غياب. فجلسة اليوم هي مرآة تعكس عمق الانقسام العمودي داخل النظام السياسي، حيث تتواجه مقاربتان: واحدة تفضّل “إدارة الأزمة” بالحدّ الأدنى الممكن، وأخرى ترفض أي خطوة لا تندرج ضمن مسار شامل لإعادة تصويب الحياة الدستورية. وبين هاتين المقاربتين، تضيع إمكانية بناء تسوية مرحلية متوازنة.
اللافت أن المقاطعة، وإن بدت هادئة في خطابها، تحمل في طيّاتها تصعيداً سياسياً ناعماً. فهي تقول إن الخلاف لم يعد تقنياً أو ظرفياً، بل بات يمسّ الثقة المفقودة بين المكوّنات السياسية، ويطرح أسئلة كبرى حول جدوى الاستمرار في قواعد اللعبة نفسها، من دون إعادة النظر بأسسها.
في المحصّلة، جلسة البرلمان اليوم، سواء انعقدت بنصابها أو لم تنعقد بسبب فقدان هذا النصاب، لن تكون جلسة عادية. إنها محطة سياسية إضافية في مسار طويل من الاشتباك المفتوح، تؤكّد أن الأزمة اللبنانية لم تعد أزمة قرارات مؤجَّلة فحسب، بل أزمة نظام سياسي عاجز عن إنتاج توافقات مستدامة. وبين مقاطعة تعكس احتجاجاً، ومشاركة تسعى إلى تسيير الأمور، يبقى المواطن الخاسر الأكبر، في انتظار لحظة سياسية تعيد الاعتبار إلى المؤسسات بوصفها أدوات حلّ لا ساحات صراع دائم.




