رأي

أزمة ماسك الكبرى… “تيسلا” تتهاوى ومواجهة مع مستشاري ترمب

كتب شون أوغرايدي في صحيفة إندبندنت عربية.

جاءت صياغة البيان الصادر عن السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض كارولين ليفيت حاسماً كالمعتاد. ففي معرض ردها على تقرير حصري لصحيفة “بوليتيكو” Politico، زعم أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أبلغ أوساط دائرته الضيقة، بأن قطب الأعمال إيلون ماسك سيغادر منصبه في البيت الأبيض خلال الأسابيع المقبلة، لجأت ليفيت إلى حسابها على منصة “إكس” لتصف “هذا السبق الصحافي” بأنه “هراء”. مضيفة أن كلاً من إيلون ماسك والرئيس ترمب أعلنا على الملأ أن ماسك سيتنحى عن مهامه كموظف حكومي خاص، بمجرد انتهاء عمله الاستثنائي في “وزارة الكفاءة الحكومية” DOGE.

هذا ما يمكن تسميته “الإنكار الموارب”. فتوقيت رحيل ماسك المرتبط بـ”عمله الاستثنائي في ’وزارة الكفاءة الحكومية‘”، قد يُتخذ قرار في شأنه صباح غد، أو لا يحدث حتى انتهاء الولاية الثالثة لترمب المفترضة في السنة 2033. الغموض هنا ملفت للنظر. فبعدما سرت تكهنات حول رحيل ماسك في شهر مايو (أيار) المقبل، لكن يبقى أن نرى كيف ستتطور مواجهته العلنية مع كبير مستشاري ترمب التجاريين، بيتر نافارو.

ماسك سبق وأن وصف نافارو بالـ”أحمق” لا بل قال عنه إنه “أغبى من كيس طوب”، قبل أن يعتذر لبعض الطوب! كما أن تصريحات ماسك بشأن تحرك الولايات المتحدة وأوروبا نحو إلغاء كامل للرسوم الجمركية ربما أثارت استياء رئيسه، في حين دخل شقيقه كيمبال إلى الجدل، منتقداً الرسوم الجمركية باعتبارها “ضريبة دائمة على المستهلك الأميركي”، مضيفاً أن المواجهة بين الصين وأميركا ليست “لعبة ينبغي أن يلعبها طلاب مبتدئون أمثال بيتر نافارو”، على حد تعبيره.

وخلال إحاطة إعلامية يوم الثلاثاء، قالت ليفيت رداً على سؤال عن الخلاف بين ماسك ونافارو: “من الواضح أن لدى كل منهما وجهات نظر متعارضة في شأن التجارة والرسوم الجمركية. الأولاد يبقون أولاداً، وسندعهما يواصلان سجالهما العلني”.

لكن لا يمكن تجاهل العاصفة المتنامية التي تحيط بالصديق الأول لترمب، فهل انتهى بالفعل عصر “الذروة بالنسبة إلى ماسك”؟ ليس فقط لأن أسهم شركات التكنولوجيا تكبدت خسائر كبيرة منذ أن أعلن ترمب عن رسومه الجمركية، بل لإن أعمال ماسك في “تيسلا” كانت تعاني أساساً من ضغط، حتى عندما كانت هذه الرسوم مجرد فكرة عابرة في ذهن ترمب.

في المقابل، مع تدهور صورة ماسك عالمياً وتحوله إلى شخصية مكروهة، وزيادة الصين إنتاجها من السيارات الكهربائية بأسعار معقولة، كشفت أرقام جديدة صدرت الأسبوع الفائت، أن تسليمات “تيسلا” من المركبات الكهربائية انخفضت بنسبة 13 في المئة في الربع الأول من السنة الجارية. ويبدو أنه إلى جانب تأثير التعريفات الجمركية، والمقاومة المتزايدة لمصالح الولايات المتحدة التي تبديها بكين، وخطة ترمب للتراجع عن كوتا السيارات الكهربائية (تفرض السياسات الحكومية على شركات تصنيع السيارات إنتاج وبيع عدد معين من السيارات الكهربائية كجزء من قوانين حماية البيئة)، فإن فرص تعافي شركة “تيسلا” هي أبعد من أي وقت مضى، وهذه مفارقة لافتة للنظر (في ما يتعلق بمتانة التحالف بين ترمب وماسك).

ومع أن مشاهدة رجل بهذه الغرابة وهذا الإزعاج يسقط مجازياً من عليائه بشكل أسرع وأشد مما قد يتخيله أي إنسان عادي قد يبعث البهجة في نفوس الملايين، إن لم يكن المليارات، من الناس، إلا أن التقارير التي تتحدث عن انهيار إمبراطورية ماسك التجارية تبدو بالتأكيد مبالغاً فيها.

فوفقاً لأحدث الأرقام في قائمة مجلة “فوربس” للأفراد ذوي الثروات التي تزيد على مليار دولار، لا  يزال ماسك يتربع على عرش القائمة بثروة تُقدر بـ342 مليار دولار، متجاوزاً بفارق كبير منافسَيه منذ فترة طويلة في قطاع التكنولوجيا، مارك زوكربيرغ الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “ميتا” (216 مليار دولار) وجيف بيزوس مؤسس “أمازون” (215 مليار دولار).

وبينما يكتفي كل من زوكربيرغ وبيزوس بالمركزين الثاني والثالث في هذا السباق، فإن ماسك يُصنف ضمن كبار الأثرياء في التاريخ الأميركي، إلى جانب عمالقة من “العصر الذهبي”، مثل جون د. روكفلر وأندرو كارنيغي، ليُكون أحد أثرى الأشخاص على مر العصور. (للمقارنة، يأتي دونالد ترمب في مرتبة متأخرة جداً، بحيث يحل في المركز 700 بثروة تُقدر بـ5 مليارات و100 مليون دولار).

صحيح أن مزيجاً من الضغوط التجارية التقليدية وكراهية زبائنه الليبراليين السابقين له أديا إلى انهيار مبيعات شركة “تيسلا” وتراجع قيمتها السوقية. ومع ذلك، لكن إذا كان هذا الوضع قد أرعب ماسك أو أزعجه، فهو لا يُظهر أي علامة على ذلك.

لا يزال قطب الأعمال يبدي تفاؤلاً وثقة بأن “تيسلا” قادرة على استعادة تفوقها التكنولوجي، مع الإطلاق المرتقب، الذي تأجل أكثر من مرة، لسيارة الأجرة ذاتية القيادة بالكامل “سايبر كاب” Cybercab. ووفقاً لما يُجرى تداوله، فإن هذا الطراز سيكون متقدماً إلى درجة أنه عند طرحه في السنة المقبلة، لن يكون مزوداً لا بدواسات السرعة والفرملة، ولا حتى بعجلة قيادة.

تجدر الإشارة إلى أن نحو ثلاثة أرباع القيمة السوقية لشركة “تيسلا” يُنظر إليها على أنها رهان مستقبلي على قدرة العلامة التجارية على إحداث تحول جذري جديد في حياتنا اليومية، خصوصاً من خلال توقع أن يحل روبوت “تيسلا” المسمى “أوبتيموس” Optimus مكان البشر في أداء المهام الروتينية، ويمهد لعصر اقتصادي يُبنى على الترفيه والوقت الحر. ورغم أن قرارات دونالد ترمب تسببت موقتاً في خسارة نحو 100 مليار دولار من قيمة الشركة، إلا أن “تيسلا” لا تزال تحتفظ بقيمة سوقية تبلغ نحو 750 مليار دولار، متقدمة بفارق شاسع على شركات مثل “تويوتا” (160 مليار دولار) و”بي واي دي” الصينية (150 مليار دولار).

إن ثروة ماسك هائلة إلى درجة أن انخفاض قيمة حصته في شركة “تيسلا” بـ30 مليار دولار في يوم واحد لا يبدو أنه سيخيفه. حتى لو انهارت الشركة بالكامل، فسيظل لديه ما يقرب من 250 مليار دولار.

لكن، وكما هي الحال دائماً مع ماسك، الأمر أعقد من ذلك.

إذ إن ماسك قدم جزءاً من حصته في “تيسلا” كضمان للقروض التي حصل عليها عام 2022 لتمويل صفقة شراء “تويتر”، الذي بات يحمل اسم “إكس”، وهو ما يعني أن تراجع سهم “تيسلا” إلى ما دون مستوى معين يجعله ملزماً أمام دائنيه بضخ أموال إضافية أو بيع أصول، بموجب ما يُعرف بـ”طلب تغطية الهامش” Margin Call (أي مطالبة المقرض له بضخ أموال إضافية في حساب الضمان لتغطية الفارق الناتج من انخفاض قيمة الأصول المرهونة)، لضمان الحفاظ على قيمة الضمانات المقدمة لهم.

قد يمثل ذلك نقطة تحول بالنسبة إلى ماسك للابتعاد أخيراً عن “تيسلا”، ولو من أجل مصلحة الشركة نفسها، بعدما أصبح يشكل الآن أكبر خطر عليها. طبعاً يمكن أن تسوء الأمور بسهولة إذا فشل إطلاق سيارة الأجرة ذاتية القيادة بالكامل (مرة أخرى) أو اتضح أنها غير آمنة على الطرقات.

من بين جميع مشاريع إيلون ماسك، يبدو أن المشروع الأحدث يثير أكبر مقدار من الغموض: شركة “إكس أي آي” xAI الموسعة، التي جاءت نتيجة دمج شركته المختصة بالذكاء الاصطناعي المطورة لنظام المحادثة “غروك” Grok مع منصة “إكس”. وعلى خلاف “تيسلا”، تُعد “إكس أي آي” شركة خاصة، مما يعني أن أسهمها غير مطروحة للتداول العام، ولا توجد لها قيمة سوقية رسمية. ورغم ذلك لم يشكك أحد بجدية في مزاعم ماسك بأن قيمتها تبلغ نحو 80 مليار دولار، بينما تُقدر قيمة “إكس” بنحو 33 مليار دولار (أو 45 ملياراً قبل احتساب ديونها وهي بقيمة 12 مليار دولار).

أما منصة “إكس” التي يدعي ماسك أنه يديرها وفق مبدأ “حرية التعبير المطلقة”، فقد تحولت في عهده إلى مستنقع من خطاب الكراهية، ومعاداة السامية، وكراهية الإسلام، والعنصرية، ونظريات المؤامرة، ورسائل تعبر عن اتجاهات تشبه الدعاية الترمبية. وفي الوقت الراهن يبدو أن أهميتها الأساسية بالنسبة إلى ماسك تكمن في استخدامها كحقل اختبار لتطوير أداء “غروك”، مما يتيح له التعلم والتفاعل مع المستخدمين، وإن كان ذلك بأسلوب غريب الأطوار يعكس شخصية ماسك نفسه.

هذا الاندماج يخفي إلى حد ما حقيقة أن “إكس” لم تعد تستحق مبلغ الـ44 مليار دولار الذي كان ماسك قد دفعه قبل ثلاثة أعوام لامتلاكها، في عملية استحواذ حظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق ومثيرة للجدل.  ويتوقع خبراء أنه في حال انهيار المنصة، من المرجح أن يتحمل ماسك وحده الجزء الأكبر من تلك الخسارة.

وهكذا، لا يتبقى في محفظة ماسك سوى شركتين على طرفي النقيض: الأشد مللاً، وهي شركة “بورينغ كومباني” Boring Company التي تحمل اسماً ساخراً وتعمل في مجال البنية التحتية وحفر الأنفاق بهدف تخفيف الازدحام المروري عبر وسائل نقل تحت الأرض؛ والأكثر قيمة وإثارة ورومانسية: “سبيس إكس”.

وفي حين أن “سبيس إكس” لا تزال شركة خاصة بالكامل، إلا أن تقارير التداول الأخيرة تقدر قيمتها بنحو 350 مليار دولار. وتفيد تقارير بأن ماسك يملك ما يقرب من 42 في المئة من حصتها، أي ما يعادل نحو 140 مليار دولار. ورغم أن أرباحها المباشرة لا تزال محدودة، فإن قوتها الحقيقية تكمن في الإمكانات المستقبلية الهائلة التي تحملها. فبفضل الانتشار المتسارع لشبكة “ستارلينك” للأقمار الاصطناعية، والتقدم الكبير في إعادة استخدام المركبات الفضائية، أحدثت “سبيس إكس” ثورة في مجال اقتصاد الفضاء، حتى وإن كانت تداعياتها الكاملة لا تزال غير واضحة حتى الآن.

لا حدود للتوقعات المتفائلة في شأن العوائد المستقبلية عندما يتعلق الأمر بحلم إقامة مستوطنة للبشر دائمة ومزدهرة اقتصادياً على كوكب المريخ، مستوطنة يتصدرها ماسك نفسه، في دور لا يختلف كثيراً عن شخصية الحاكم المستبد “مينغ عديم الرحمة” Ming the Merciless (في سلسلة Flash Gordon).

من هنا، فإن التركيز الحقيقي لماسك لا ينصب على “تيسلا” أو دوره في “وزارة الكفاءة الحكومية”، بل يتمحور حول “سبيس إكس”. فرغم أن أحلام السفر إلى الفضاء وبناء مستعمرات على المريخ تسرق الأضواء، فإن القوة الفعلية لـ”سبيس إكس” تكمن في مشروع “ستارلينك”. فبفضل هذه الشبكة الفضائية، أصبح ماسك اليوم الشخص الوحيد القادر على إيصال الإنترنت إلى كل زاوية من زوايا العالم، مهما كانت نائية.

معلوم أن “ستارلينك” حظيت باهتمام واسع النطاق، عندما تولى ماسك بنفسه تحديد متى وكيف يتم استخدامها خلال الحرب في أوكرانيا، موفراً للجيش الأوكراني مقداراً محدوداً من الدعم التقني لأغراض دفاعية. ورغم انتقاداته العلنية للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فإن تدخله ربما أسهم، ولو جزئياً، في تعطيل التقدم الروسي ومنع القوات الروسية من السيطرة كلياً على أوكرانيا في المراحل المبكرة من النزاع.

في موازاة النجاح البارز الذي حققه ماسك من خلال “سبيس إكس” و”ستارلينك”، فإن انخراطه المتزايد في الشأن السياسي ألحق أضراراً واضحة بمصالحه التجارية، بحيث ألغيت بعض العقود أو أصبحت مهددة، لا سيما في دول مثل كندا وبولندا. وفي ظل الاتهامات التي تطاوله، من أداء تحية مرتبطة بالنازية إلى تصرفاته المثيرة للجدل، بات كثيرون يتحاشون الارتباط باسمه. من الواضح أن السياسة ليست الساحة التي سيُبنى فيها مستقبله، إذ يبدو أنه وجد صعوبة في التوفيق بين طموحاته السياسية وإدارة إمبراطوريته الاقتصادية، ناهيك بالأثر السلبي لتحالفه مع ترمب على صورته العامة.

الحقيقة أن ماسك يبدو بشكل متزايد عالقاً بين قوتين متضاربتين. الأولى هي كراهيته الشديدة لما يسميه “آفة العقل المستيقظ” (في إشارة إلى تيار “اليقظة” Woke المناهض للظلم والتمييز العنصري)، التي يحملها المسؤولية عن التوتر في علاقته مع ابنته المتحولة جنسياً فيفيان جينا ويلسون. وقد وصفها في مقابلة العام الماضي بأنها “ميتة” بالنسبة إليه، مدعياً أنها “خدعت” عندما كانت في سن الـ16 للموافقة على علاج طبي لتثبيت هويتها الجندرية. ويبدو أن هذه التجربة الشخصية قد أسهمت في تحوله نحو اليمين الشعبوي وتبني موقف معاد لـ”حرية التعبير”.

أما القوة الدافعة الثانية فهي شغفه شبه الطفولي بعالم الخيال العلمي. من الواضح أنه نشأ وهو يشاهد سلسلة “ستار تريك” بشكل مكثف، كما قرأ كثيراً من روايات الخيال العلمي المليئة بالإثارة. لكن ذكاءه وتفانيه في التزامه، مهما كان مضللاً، قد وضعاه في موقع يمكنه من أن يكون أول إنسان تطأ قدمه سطح كوكب المريخ.

هناك كثير من الجوانب في نهج إيلون ماسك التي تحاكي منطق “مستر سبوك” Mr. Spock (الشخصية الشهيرة في مسلسل “ستار تريك”) الهادئ والمتجرد من المشاعر والمنطقي، الذي يثبت على موقفه ويذهب بالأمور إلى نهاياتها غير مبال بالكلفة والعواقب. ومع ذلك، لطالما جعلته سلوكياته المتقلبة وتصريحاته المسيئة شخصاً غير محبوب على الإطلاق. ولم يؤدِ انخراطه مع إدارة ترمب إلا إلى تعميق مرارة هذا الانطباع العام.

يبقى أن نرى ما إذا كان هذا سيعرقل مسيرته ويؤدي إلى سقوطه، ويصبح حجر عثرة يحول دون حصوله على التمويل الضروري لتحقيق أهدافه الطموحة والأكثر غرابة. ورغم ثروته الضخمة ونفوذه الواسع، يبدو أن ماسك يقف على مفترق طرق، إذ عليه اتخاذ قرار حاسم: هل يظل متوازناً ويختار العيش على الأرض، أم يطمح إلى النجوم ويختار الحياة على المريخ؟

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى