كتب محمد السعيد إدريس في صحيفة الخليج.
في وقت شديد الحساسية لإدارة السياسة والحكم في الولايات المتحدة، التي توصف عادة ب «مرحلة البطة العرجاء» التي تكون فيها مؤسسات الحكم الأمريكية مشغولة بإجراءات نقل وتسليم السلطة من رئيس انتهت ولايته إلى رئيس تم انتخابه، جاءت الصدمة من خارج كل التوقعات والحسابات.
فانشغالات الإدارتين الأمريكيتين: إدارة بايدن المغادرة، وإدارة ترامب التي تتأهب لتسلم السلطة، كانتا مضطرتين لمتابعة تطورات أحداث الشرق أوسطية وأوكرانيا، لكنهما فوجئتا مساء يوم الثالث من ديسمبر/كانون الأول الماضي، بأزمة سياسية عاصفة وغير متوقعة تفرض نفسها على الحليف الكوري الجنوبي لدرجة فرضت على مسؤولين أمريكيين كبار في إدارة ترامب، الحديث بحذر عن خطر يحتمل أن يتهدد «الاتفاق الثلاثي» الأمريكي – الياباني – الكوري الجنوبي الذي يعد مرتكز الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية في شمال شرق آسيا، هذا الخطر وصف بأنه «خطر عاصف»، لأنه أطاح حكم الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول الذي اعتبرته صحيفة «واشنطن بوست»، نقلاً عن مسؤول أمريكي كبير بأنه «إحدى ركائز استراتيجيتنا للمشاركة الإقليمية»، وسوف يضع نهاية حتمية لسيطرة حزبه الحاكم «حزب سلطة الشعب» والطبقة السياسية الحاكمة المنتمية لهذا الحزب، ويدفع إلى الأمام بالمعارضة السياسية التي يقودها الحزب الديمقراطي أهم أحزاب المعارضة وزعيمه لي جاي ميونغ الذي خسر بفارق ضئيل أمام الرئيس يون سوك يول في الانتخابات الرئاسية عام 2022 مدعوماً بمنظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها «الاتحاد الكوري للنقابات العمالية».
وترجع خطورة الأزمة الكورية المتفجرة بالنسبة للولايات المتحدة لسببين مهمين:
السبب الأول، هو أن السبب المباشر، أو المفجر الرئيسي للأزمة يرجع إلى «القرار غير الديمقراطي» الذي اتخذه الرئيس الكوري مساء يوم الثالث من ديسمبر/كانون الأول الماضي، بفرض الأحكام العرفية على البلاد، وإغلاق البرلمان، وزاد الجيش الكوري، الذي تعجل بتنفيذ أمر الرئيس بإغلاق البرلمان أن «أنشطة البرلمان والأحزاب السياسية ستحظر، وأن وسائل الإعلام ودور النشر ستكون تحت قيادة الأحكام العرفية». هذا القرار «غير الديمقراطي» وضع الإدارة الأمريكية في موقف العجز عن الدفاع عنه وتبييض وجهها أمام قوى وأحزاب المعارضة الكورية، نظراً لأن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بنت سياستها الخارجية على أساس «الديمقراطية في مواجهة الاستبداد».
أما السبب الثاني، فهو ربط الرئيس الكوري لقراره بفرض الأحكام العرفية وإغلاق البرلمان وبين اتهامه للمعارضة التي تتمتع بالأغلبية داخل البرلمان أنها «تتآمر لصالح كوريا الشمالية». هذا الاتهام فجّر الغضب الشعبي وغضب قوى المعارضة التي اتجهت بأسرع ما يمكن نحو البرلمان وعقد جلسة طارئة استطاعت من خلالها اتخاذ قرار بإجماع الحاضرين برفض قرار الرئيس بفرضه الأحكام العرفية، ما اضطر الرئيس للتراجع عن قراره بعد أقل من 6 ساعات، لكن قراره بالتراجع لم يحلّ الأزمة، لكنه زاد من اشتعالها وأصبح الهدف الرئيسي للمعارضة هو عزل الرئيس أو إجباره على التنحي الاختياري وتقديمه للمحاكمة بتهمة «التمرد». كما صدر قرار بمنع الرئيس من السفر عقب تمكن المعارضة في جلسة 14 ديسمبر/ كانون الأول الماضي من اتخاذ قرار برلماني بعزله عن الحكم، وهو القرار الذي ينتظر تصديق المحكمة الدستورية العليا.
عزل الرئيس يون سوك يول، سبقه اعتقال وزير دفاعه كيم يونجهيون الذي يعتقد أنه من أوصى الرئيس بإعلان الأحكام العرفية، كما سبقه تخلي زعيم الحزب الحاكم الذي ينتمي إليه الرئيس يون سوك يول عن معارضته لمسعى المعارضة بعزل الرئيس، وتحوله إلى الوقوف إلى جانب المعارضة وإعلانه أن الرئيس بات «يشكل خطراً كبيراً بعد اتخاذ إجراءات متطرفة»، والتصريح بأنه «تلقى معلومات استخباراتية» تفيد بأن الرئيس يون، أمر قائد مكافحة التجسس في البلاد باعتقال واحتجاز سياسيين بناء على اتهامات بأنشطة معادية للدولة خلال الساعات القصيرة الست التي كانت الأحكام العرفية سارية فيها.
لكل هذه التطورات المتلاحقة كانت واشنطن في موقف لا تحسد عليه، حيث لم يكن في استطاعة أحد من أركان الحكم أن ينصح باتخاذ موقف داعم للرئيس الذي جرى عزله «ديمقراطياً» أو مساند للمعارضة المتهمة من جانب الرئيس بالعمالة لكوريا الشمالية العدو اللدود للولايات المتحدة، ولم يجد مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض من موقف يعلنه غير إصدار بيان مقتضب يقول إن الإدارة الأمريكية «على اتصال بحكومة كوريا، وتراقب الوضع عن كثب فيما تعمل على معرفة المزيد»، مؤكداً أن «الولايات المتحدة لم تعلم مسبقاً بهذا الإعلان»، ويقصد إعلان الأحكام العرفية، التي بمجرد إنهائها سارع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للتعبير عن ارتياحه وارتياح الإدارة الأمريكية، أما كيرت كامبل نائب وزير الخارجية، فقال: «تحالفنا مع جمهورية كوريا قوي، ونحن نقف إلى جانب كوريا في وقت عدم اليقين».
هذه التطورات إشارة «حمراء» لواشنطن حول خطورة التحالف مع الحكومات من دون إرادة الشعوب، والمستقبل الكوري سيجيب عن ذلك بكل دقة.