أزمة اقتصادية جديدة في فرنسا وسط مشهد سياسي معقد
أزمة سياسية جديدة تضرب الاقتصاد الفرنسي الذي يمر حاليًا بمشهد معقد في أعقاب انهيار حكومة ميشيل بارنييه التي لم يمر على تشكيلها سوى أشهر. وقد أثار هذا الوضع السياسي المضطرب المخاوف بين المؤسسات المالية والمستثمرين وصناع السياسات بشأن الاستقرار الاقتصادي والسياسة المالية وثقة السوق في مستقبل الاقتصاد الفرنسي. ومع أزمة حكومة بارنييه، تواجه فرنسا تحديات مباشرة في مجال الحكم تعيق قدرة البلاد على إقرار التشريعات الأساسية، خصوصاً في ما يتعلق بالميزانية العامة مع عدم وجود حكومة فاعلة.
وصوّت أغلب أعضاء البرلمان الفرنسي يوم الأربعاء على سحب الثقة من حكومة رئيس الوزراء ميشيل بارنييه، بعد استغلاله صلاحيات دستورية لإقرار مشروع موازنة الضمان الاجتماعي دون تصويت المشرعين.
ويتوقع مصرف “أتش أس بي سي” البريطاني أن يقود عدم الاستقرار السياسي إلى تأثر العلاقات التجارية الدولية لفرنسا، خصوصاً موقف فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي.
وبحسب مصرفيين وعاملين في أسواق المال، فإنه لا توجد خطة واضحة لدى السلطات الحاكمة لمعالجة المشاكل المالية التي تعاني منها البلاد. ووفق البيانات الحكومية، يبلغ العجز في ميزانية فرنسا نحو 6.1% من ناتجها المحلي الإجمالي حالياً، وهو أمر غير قابل للاستدامة في الأمد البعيد. كذلك بلغ الدين السيادي نحو 3.2 تريليونات يورو، ما تشكل خدمته ضغوطاً هائلة على المالية العامة والسندات وقدرة البلاد على الاستدانة بمعدلات معقولة.
ووفق وكالة بلومبيرغ أمس الخميس، حافظت السندات الفرنسية على مستوياتها بسبب توقعات المستثمرين لانهيار حكومة ميشيل بارنييه قبل أكثر من أسبوع. وكانت الأسواق تتوقع إطاحة حكومة بارنييه، لذا كان رد الفعل صامتًا، وفق الوكالة الأميركية، حيث عدل المتداولون مراكزهم وأغلقوا الرهانات. وهذا ما أدى إلى عدم تدهور عائد السندات الفرنسية لأجل 10 سنوات، ما أدى إلى انخفاض العائد إلى 2.87% أو بفارق 0.61% عن عائد السندات الألمانية القياسية في منطقة اليورو. كذلك انخفضت العلاوة التي يطلبها المستثمرون للاحتفاظ بالديون الفرنسية فوق الأوراق المالية الألمانية الأكثر أماناً أربع نقاط أساس إلى 81 نقطة أساس.
ويعني غياب رئيس وزراء جديد وحكومة جديدة، من الناحية العملية، أن القرارات الحاسمة المتعلقة بالسياسة المالية متوقفة. ويهدد هذا الشلل بمزيد من التدهور في الوضع الاقتصادي في فرنسا، حيث تواجه الشركات حالة من عدم اليقين المتزايد بشأن السياسات المستقبلية. وأعرب قادة الأعمال عن مخاوفهم بشأن التأثيرات المحتملة على النمو بسبب عدم الاستقرار السياسي.
في هذا الصدد، أعرب بنك “بي إن بي باريبا” الاستثماري الفرنسي، في تقرير حديث خلال ديسمبر الجاري، عن مخاوفه بشأن التأثير المباشر لانهيار الحكومة في ثقة المستهلك ومعنويات الاستثمار. وأشار البنك إلى أن عدم اليقين المحيط بالقيادة السياسية قد يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي ويؤخر خطط الاستثمار في البلاد، حيث تؤخر الشركات الاستثمارات حتى تُشكَّل حكومة جديدة. ويتوقع البنك في تحليله أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالى 1% في عام 2025 إذا استمرت حالة الغموض وعدم الاستقرار السياسي.
من جانبه، سلط بنك مصرف “سوسيتيه جنرال” الفرنسي في تقرير حديث هذا الشهر، الضوء على التقلبات المحتملة في الأسواق المالية مع تفاعل المستثمرين مع حالة عدم اليقين الناجمة عن سقوط الحكومة. وأشار إلى أن عوائد السندات قد ترتفع بسبب زيادة علاوات المخاطر، ما قد يؤثر في تكاليف الاقتراض لكل من المستهلكين والشركات. وحذر البنك أيضاً من أن أي عدم استقرار طويل الأمد قد يؤدي إلى خفض التصنيف الائتماني لفرنسا، ما يؤثر بقدرتها على تمويل الدين العام.
وتتوقع البيانات الحكومية أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لفرنسا بنسبة 1.1%، وأن يتراجع معدل النمو الاقتصادي إلى 0.8% في العام المقبل 2025. ويعزى هذا التباطؤ في النمو إلى الموقف المالي الانكماشي الذي يضغط على النشاط الاقتصادي، إلى جانب انخفاض الاستثمار الخاص بسبب استمرار حالة عدم اليقين الاقتصادي والظروف المالية التقييدية. ومن المتوقع أن يبلغ متوسط التضخم في فرنسا 2.4% في المتوسط بنهاية العام الجاري، ويتأثر انخفاض معدلات التضخم إلى حد كبير بانخفاض أسعار الطاقة واعتدال الزيادات في أسعار المواد الغذائية.
من جانبه، ركز مصرف كريدي أغريكول الفرنسي على هشاشة القطاع الزراعي وسط الاضطرابات السياسية. وأشار إلى أن الاضطرابات في صنع السياسات يمكنها أن تعرقل الدعم الزراعي وبرامج الدعم الضرورية للمزارعين. وشدد البنك على أنه من دون حكم مستقر، قد تتعرض مبادرات الأمن الغذائي في فرنسا للخطر، ما يؤدي إلى تداعيات اقتصادية أوسع نطاقاً على الاقتصاد الفرنسي.
وعلى صعيد العجز الحكومي والدَّين العام، من المتوقع أن يرتفع الدين العام ليصل إلى نحو 112.7% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام الجاري، ويستمر في اتجاهه التصاعدي خلال العام المقبل. كذلك تتوقع البيانات الرسمية أن يرتفع معدل البطالة تدريجياً من 7.4% في العام الجاري إلى 7.5% ثم 7.6% في عامي 2025 و2026، على التوالي، ما يعكس ضعف سوق العمل مع تباطؤ نمو العمالة. وبالتالي من المتوقع أن يواجه الاقتصاد الفرنسي تحديات كبيرة في العام المقبل 2025، بما في ذلك انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي والضغوط التضخمية المستمرة وزيادة العجز الحكومي، والارتفاع التدريجي في البطالة.
في هذا الشأن، حذر مصرف دويتشه بنك الألماني من تداعيات ارتفاع معدلات البطالة في فرنسا، حيث قد تلجأ الشركات إلى تسريح العمال وسط انخفاض الطلب الاستهلاكي بسبب عدم اليقين السياسي. وتوقع البنك في تقريره الصادر قبل يومين، أن ترتفع البطالة بفرنسا إلى أكثر من 10% إذا لم يجرِ التوصل إلى حل سريع للأزمة السياسية وتشكيل الحكومة الجديدة، ما يزيد من الضغط على الخدمات الاجتماعية والمالية العامة.
من جانبه، قدم بنك التمويل والاستثمار الدولي، ناتيكسيس، نظرة مستقبلية حول الآثار المترتبة عن السياسة المالية في أعقاب انهيار الحكومة الفرنسية، وأشار إلى أن أي إدارة جديدة ستحتاج إلى معالجة وقتية للتحديات الكبيرة المتعلقة بالميزانية. وحذر من إجراءات تقشفية محتملة إذا انخفضت الإيرادات بسبب تباطؤ النشاط الاقتصادي، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفاقم الاضطرابات الاجتماعية وزيادة زعزعة استقرار الاقتصاد.
وتعرّض الاقتصاد الفرنسي لضغوط بسبب عدة عوامل أدت إلى تفاقم الأزمة الحالية، من بينها جائحة كوفيد-19 التي أثرت بشدة في النشاط الاقتصادي، ما أدى إلى حدوث اضطرابات في مختلف القطاعات. وكان التعافي بطيئًا، حيث لا تزال العديد من الشركات تكافح لاستعادة مستويات عملها قبل الوباء. كذلك أدت أزمة الطاقة المستمرة التي تفاقمت بسبب التوترات الجيوسياسية، وخصوصاً حرب روسيا في أوكرانيا، وخسارة اليورانيوم الرخيص الذي كانت تحصل عليه الشركات الفرنسية من النيجر، إلى زيادة تكاليف الطاقة بالنسبة إلى المستهلكين والشركات على حد سواء. وقد ساهم هذا الوضع في الضغوط التضخمية داخل الاقتصاد.
كذلك أدى ارتفاع معدلات البطالة وتسريح العمال في القطاعات الرئيسية إلى إثارة السخط العام والاحتجاجات بين العمال الذين يطالبون بتحسين الظروف والأمن الوظيفي إلى تراجع معدلات الضرائب. ويلاحظ أن المشهد السياسي في فرنسا أصبح يتسم بالاستقطاب الحاد، ما يجعل من الصعب على أي حكومة التوصل إلى توافق في الآراء بشأن الإصلاحات الضرورية أو تدابير الميزانية اللازمة لتحقيق استقرار الاقتصاد.
أوروبياً، ارتفعت غالبية الأسهم الأوروبية في مستهل تعاملات الخميس، وسط حالة الاضطراب السياسي التي تعيشها القارة العجوز بعد سحب البرلمان الفرنسي الثقة من حكومة رئيس الوزراء، ميشيل بارنييه. وزاد مؤشر ستوكس يوروب 600، في ظل أداء إيجابي لقطاعي السفر والبنوك، مقابل انخفاض أسهم نظيره الصناعي 0.24%، وفيما استقر مؤشر فوتسي البريطاني، ارتفع نظيراه، داكس الألماني، وكاك الفرنسي.