أبرزرأي

أذرع تركيا ليست أقصر من أذرع إيران

كتب سمير عادل في صحيفة العرب.

كل ما نُسِج خلال السنوات الماضية لتمرير المشروع القومي الإيراني تحت غطاء “المقاومة والممانعة” تمزق كما انهارت أذرعها العسكرية وحلفاؤها في لبنان وسوريا وفي أحسن الأحوال تراجعت وانزوت.

إذا سلّمنا بأن الأيديولوجيا جزء من البنية الفوقية كما تقول لنا الأدبيات الماركسية، فإن هذه الأخيرة تُعد انعكاسًا للبنية الاقتصادية. وبناءً على هذه الأطروحة، يُمكن إنهاء الجدل حول قدرة الأطراف المختلفة، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، على تغيير أيديولوجياتها وفقا لأهوائها أو أمزجة ممثليها السياسيين.

في هذا السياق، تتوالى الطروحات والتصورات بشأن منهجية النظام الإسلامي في إيران بعد حرب الأيام الاثني عشر، وتتساءل عمّا إذا كان هذا النظام قد غيّر من نهجه في التعامل مع الوقائع التي فرضتها الحرب مع إسرائيل، أو بالأحرى، الحرب التي شنتها إسرائيل عليه.

المنهجية التي يتم تسويقها تتجلى في التحليل الأخلاقي وتقييم سياسات دول وأنظمة سياسية على أساس سلوكها غير المرضي عند هذا الطرف أو ذاك. ويعتبر تقييم حال إيران نموذجا لجميع تلك التحليلات، بأنها تدعم الميليشيات على حساب “الدولة الوطنية” – وعليها أن تتّعظ مما آلت إليه أوضاع حلفائها وأذرعها في المنطقة – متجاهلة السلوك نفسه لتركيا في دعم الفصائل المختلفة في سوريا وليبيا والعراق على حساب ما يعرف بالدولة الوطنية. وهذه التحليلات ليست بريئة أبدا، بل تحاول إخفاء الجوهر الحقيقي للصراع، وواقع وتطور العلاقات الاقتصادية الرأسمالية ومتطلباتها، وظروف وآليات استمراريتها. أي بشكل آخر إن تجاهل العامل الاقتصادي يُفضي ببعض المحللين السياسيين إلى استنتاجات أقلها نشر الأوهام في المجتمع، مفادها أن تغيير الأيديولوجيا أو التخلي عنها سيؤدي تلقائيًا إلى تغيير في السلوك السياسي، وهو استنتاج تبسيطي لا يصمد أمام تحليل البُنى العميقة.

المسألة الأخرى التي تجب الإشارة إليها هي أن تطور العلاقات الاقتصادية الرأسمالية يتطلب بدوره أيديولوجيا وهوية سياسية محددة. فدول مثل إيران وتركيا وإسرائيل على سبيل المثال وليس الحصر، التي تتنافس فيما بينها على النفوذ السياسي ومن ثم الاقتصادي في المنطقة، يحتاج كل منها إلى تسويق وتعميم أيديولوجيا معينة تُمكّنها من تجاوز الحدود القومية، وتوسيع نفوذها السياسي، وتعزيز قدرتها التنافسية اقتصاديًا.

في حالتي تركيا وإيران، لم تكن الأيديولوجيا القومية قادرة على اختراق المنطقة عموما، والمنطقة العربية بشكل خاص فحسب، بل تقف عائقا أمام عبورها إلى حدودها القومية، نظرًا إلى تعارضها مع الأيديولوجيات القومية العربية. ولهذا السبب، لجأت كل واحدة منهما إلى ارتداء عباءة الأيديولوجيا الإسلامية، وإن اختلفت في صنفها بين السنية والشيعية، بهدف تمويه البعد القومي التوسعي في مشروعها الإقليمي.

فحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا نجح وبمهارة في تسويق النزعة القومية التركية من خلال الأداة العسكرية، وتمكّن من تحويل تركيا إلى قوة إقليمية – بل وحتى دولية – وتحتل موقعا في نادي الكبار العشرين من الدول الصناعية في العالم، وبدأت تصدّر الصناعات المدنية والحربية. وقد استغل ما سُمّي بـ”الربيع العربي” إلى أقصى درجة، ليتصدر قيادة الإسلام السياسي السني تحت عباءة “الإخوان المسلمين”. واتبعت إيران النهج ذاته من خلال نظامها القومي المغلف برداء ديني، وأضافت إليه شعار “محور المقاومة والممانعة” لإضفاء شرعية أيديولوجية على تمددها.

والحق يُقال، فإن أذرع تركيا ليست أقصر أو أقل امتدادًا من أذرع إيران، وإن كان الإعلام الغربي لا يسلّط عليها الضوء بالقدر نفسه، نظرًا إلى انخراط تركيا في المنظومة الغربية وعضويتها الفاعلة في حلف الناتو.

تعتمد تركيا سياسة اللعب على التناقضات، أو بالأحرى “اللعب على الحبال”، وتسعى يومًا بعد آخر إلى قضم حصص من خصومها واقتناص الفرص الاقتصادية والسياسية في المنطقة. فعلى سبيل المثال، وبالاعتماد على الفصائل الموالية لها في سوريا، نجحت في إسقاط نظام بشار الأسد، وبدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل. كما أنها تُمثّل فاعلًا حاضرًا في الجغرافيا السياسية لليبيا، إلى جانب عدد من دول أفريقيا وآسيا الوسطى.

أما في العراق، فلتركيا وجود عسكري مباشر يتمثل في “درع نينوى” و”جيش كركوك”، فضلًا عن عشرات القواعد العسكرية في العراق وسوريا وليبيا وقطر والصومال، إلى جانب قواعد مؤقتة واتفاقيات عسكرية مع العديد من الدول الأفريقية.

أما إسرائيل، التي تستند إلى دعم أميركي غير مشروط على المستويات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية، فتروّج لنفسها كـ”قلعة ديمقراطية” في المنطقة. وقد مكّنها تفوقها العسكري، خاصة خلال العقد الأخير، من اختراق المحيط الإقليمي وتثبيت وجودها كجزء من معادلة الشرق الأوسط، من خلال مفهوم “السلام مقابل الأمن”، أي الادعاء بأنها تملك مفاتيح الاستقرار عبر سياستها الأمنية الهجومية وتسويق مظلوميتها وحبها للسلام، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إستراتيجيته التي تحمل عنوانا عريضا بشعار “السلام بالقوة”.

وإذا عدنا إلى موضوعنا حول إيران، فقد بلغ الناتج القومي الإيراني في عام 2011 حوالي 570 مليار دولار، وتشير مصادر أخرى إلى أنه وصل إلى 644 مليار دولار. ومهما كانت الأرقام الأدق، فإن تلك المرحلة كانت على وشك أن تُدخِل إيران في نادي الدول الصناعية الكبرى عالميًا. هذه القوة الاقتصادية، التي تراجعت لاحقًا بفعل العقوبات الاقتصادية الغربية، لم يكن من الممكن لها أن تبقى منغلقة أو تنكفئ على الداخل.

إن أحد العوامل الموضوعية التي تمثل نقطة ضعف قاتلة للرأسمال، هو تراكمه دون وجود منافذ لتدويره. دوران رأس المال شرط أساسي لتراكمه واستمراره. وينطبق هذا الحال كذلك على تركيا، وإن كان بدرجات متفاوتة. فتركيا قادرة على المنافسة الاقتصادية الحرة مع الاقتصادات المتقدمة، كالدول الغربية، أما إيران فليست كذلك. ولذلك، لم يكن أمام الطبقة البرجوازية الحاكمة في إيران، التي يمثلها النظام الإسلامي، سوى تصدير فائض قوتها العسكرية لفتح الطريق أمام فائض رأسمالها في المنطقة.

فعلى سبيل المثال، إذا أخذنا العراق وسوريا كنموذجين صارخين لـ”الحديقة الخلفية الإيرانية”، أو بعبارة أخرى لتدوير رأس المال الإيراني، فإن الأرقام تشير إلى أن قيمة الصادرات الإيرانية غير النفطية إلى العراق بلغت نحو 12 مليار دولار حتى شهر مارس – آذار 2025، فضلا على تحديد 140 فرصة استثمارية من قبل رجال أعمال إيرانيين.

أما في سوريا، وفي حقبة نظام بشار الأسد، فقد بلغت الاستثمارات الإيرانية نحو 60 مليار دولار في مجالات متعددة. وتشير تقارير أخرى إلى أن حجم الاستثمارات الإيرانية قد تجاوز 100 مليار دولار.

من المؤكد أن هذه الاستثمارات الكبيرة ما كانت لتجد لنفسها موطئ قدم في العراق وسوريا لولا الدعم العسكري المباشر، ووجود المستشارين العسكريين للحرس الثوري الإيراني، وتشكيل الميليشيات التابعة لها، والتي وفّرت لها بيئة حامية وآمنة لتمرير هذا التوسع الاقتصادي.

ولهذا نجد أن كل ما نُسِج خلال السنوات الماضية لتمرير المشروع القومي الإيراني تحت غطاء “المقاومة والممانعة”، قد تمزق، تمامًا كما انهارت أذرعها العسكرية وحلفاؤها في لبنان وسوريا، أو في أحسن الأحوال تراجعت وانزوت أو ضعفت، كما هو الحال مع الميليشيات الولائية في العراق والحوثيين في اليمن.

وإنّ أكثر الأطراف التي دفعت ثمن سقوط قناع “محور المقاومة والممانعة”، بعد أن تحطم تحت ضربات الآلة العسكرية الإسرائيلية، هي تلك الجماعات نفسها التي انتمت إلى هذا المحور، لتجد نفسها في نهاية المطاف مجرّدة، عارية، مخدوعة، ووحيدة في صراعها مع “الشيطان الأكبر”، بعد أن علا نشيد “آيـا إيران” القومي في سماء طهران. لقد كان ترديد النشيد القومي هو إعلان رسمي بطيّ صفحة شعار “محور المقاومة والممانعة”.

وحتى معيار النصر والهزيمة بات مرتبطًا بالمشروع القومي والدفاع عن بقائه واستمراره. فمعيار “الانتصار” يُعرَّف هنا وفق ما يخدم مصالح هذا المشروع القومي، وهو ما اختلفت حوله إيران وإسرائيل.

بالنسبة إلى إيران فإن معيار النصر يتمثل في الحفاظ على السلطة وبقاء النظام الحاكم، رغم الخسائر الفادحة على الصعيدين البشري والمادي، وعلى رأسها مقتل عدد من قادة الصف الأول في الحرس الثوري، وخيرة علمائها النوويين، ناهيك عن تدمير منشآت عسكرية حساسة بفعل الضربات الإسرائيلية.

أما بالنسبة إلى إسرائيل، التي تواجه إدانات واسعة من قبل الرأي العام العالمي بسبب جرائمها ووحشيتها غير المحدودة، وكانت الغالبية العظمى في العالم تتنفس الصعداء بسقوط الصواريخ الإيرانية على المدن الإسرائيلية، فقد استطاعت إسرائيل استعادة زمام المبادرة وقوة الردع التي فقدتها بعد هجوم السابع من أكتوبر. وقد سعت من خلال هذا الصراع إلى إعادة تسويق نفسها كقوة عسكرية فعّالة مهيمنة في المنطقة، رغم الدمار الذي لحق بها جراء تلك الضربات.

الخلاصة التي نود التأكيد عليها هي أن شعارات من قبيل “تصدير الثورة”، و”محور المقاومة والممانعة”، والاحتفاء بـ”يوم القدس”، ليست سوى تعبيرات مضللة وزائفة تخفي خلفها المشروع البرجوازي القومي الإيراني. وقد انكشف هذا المشروع بوضوح عندما خرج علي خامنئي المرشد الأعلى بعد أيام من انتهاء الحرب مع إسرائيل، ليطلب ترديد نشيد “آيا إيران” الذي كانت السلطة الإسلامية قد حظرته سابقاً. لقد بات اللعب على المكشوف؛ فذلك الشعار الذي طالما تغنّى به القوميون الإيرانيون، بات اليوم يرفعه الإسلاميون في إيران.

المهمة العاجلة للجمهورية الإسلامية اليوم هي الحفاظ على النظام بأيّ وسيلة. والعودة إلى الأصل، أي رفع الراية القومية، بات أقوى من الدين والأيديولوجيا الإسلامية، التي كانت في الأصل مجرد أداة أيديولوجية عابرة للحدود.

والجدير بالذكر أنه بعد هزيمة صدام حسين في حرب الخليج الثانية، أي عقب إخراجه من الكويت، أُضاف عبارة “الله أكبر” إلى العلم العراقي، في محاولة لدمج القومية العربية التي كان يتبناها بنزعة دينية، أما علي خامنئي فدمج الدين بالقومية. فحسب المرحلة والحاجة والضرورات السياسية، يتقدم الدين أو القومية إحداهما على الآخر.

وكما ذكرنا في مناسبات أخرى، فإن الفارق بين نظام المرشد الأعلى الحاكم في إيران اليوم ونظام الشاه لا يكمن في جوهر المشروعين، بل في الشكل فقط؛ إذ أن كلاً من نظام الشاه الذي أطاحت به ثورة 1979، والنظام الذي تمثله الجمهورية الإسلامية، يعبران عن تطلعات البرجوازية القومية الإيرانية ومشروعها التوسعي والتنافسي. أما الاختلاف الجوهري، فهو أن نظام الشاه حصل على “رخصة عمل” أميركية للقيام بدور شرطي المنطقة، في حين حاول النظام الإسلامي اللعب لحسابه الخاص خارج الإطار الغربي. انظر مقال “المأزق الأيديولوجي والسياسي لإستراتيجية محور المقاومة.”

أي بعبارة أخرى، إن كلا المشروعين، سواء في عهد الشاه أو في عهد الجمهورية الإسلامية، يعكسان رؤية قومية لتيارين داخل الطبقة البرجوازية الإيرانية. وقد جاءت الحرب بين إسرائيل وإيران لتوحّدهما عملياً، وتبدد الأوهام، وتنزع القناع الذي ضلّل الجماهير في المنطقة لعقود، كاشفاً عن جوهر المشروع الذي طالما اختبأ خلف تلك الشعارات.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى