رأي

أبعاد الأزمة في العلاقات المصرية السعودية

كتب الخبير الاقتصادي والمالي عبد الخالق فاروق في ” ميادين نت”:

اسعاً بعد حرب أكتوبر عام 1973 في العلاقات الاقتصادية والسياسية المصرية-السعودية، بعضها يرجع للتوافق السياسي بين رؤية القيادتين: المصرية (أنور السادات) والسعودية (آل سعود عموماً)  تجاه قضايا المنطقة والعالم، سواء ما يتعلق منها بالتسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي، أو الدور الأميركي في المنطقة، وأخيراً سياسة محاربة ومطاردة الشيوعية في كل مكان.

وفي المحصلة النهائية أصبحت السياسة الداخلية والخارجية المصرية محكومة بمتطلبات ورغبات السياسة السعودية إلى حد كبير، وهذا ما يفسر مرحلة الجمود في العلاقات بين البلدين بعد إقدام السادات على خطوته الانفرادية بزيارة القدس المحتلة وتوقيع اتفاقيات صلح منفرد مع “إسرائيل” عام 1978.

وباستثناء هذه الفترة (1978-1986) من الجمود في العلاقات السياسية فإنّ التعاون الاقتصادي ظل سارياً وجارياً.

وإذا كان كثير من الدراسات الاقتصادية- سواء من الجانب السعودي أو من الخبراء المصريين-قد قدرت حجم المساعدات التي قدمتها المملكة السعودية إلى مصر في صورها المتعددة (قروض– منح– مشروعات مشتركة – استثمارات مباشرة -دعـم عسكري.. إلخ) خلال الفترة التي أعقبت نكسة الخامس من حزيران/يونيو عام 1967 إلى عام 2008 بحوالى  12  إلى 17 مليار دولار أميركي (1) بينما تشير مصادر إحصائية أخرى إلى أن المساهمات السعودية في الشركات المصرية ( وفقاً لقانون حوافز الاستثمار رقم 8 لسنة 1997 وقانون الشركات رقم 159 لسنة 1981) خلال الفترة الممتدة من عام 1970 حتى أيلول/سبتمبر من عام 2008 حوالى 18.3 مليار جنيه مصري (أي حوالى 3.4 مليارات دولار أميركي). 

وكانت تشكّل بالتالي حوالى 13% من إجمالي قيمة المساهمات العربية والأجنبية في رؤوس الأموال المصدرة، تليها بريطانيا بنسبة 12%، ثم دولة الإمارات العربية بنسبة 9.0% (2)، أمّا القفزة الكبرى في الاستثمارات السعودية بكل أنواعها فقد بدأت بعد عام 2014 – وبعد تولي الجنرال عبد الفتاح السيسي الحكم في مصر، وكمحاولة لمساندة ودعم نظامه بعد عزل الرئيس الإخواني الدكتور محمد مرسي وإزاحة خطر تنظيم الإخوان “المسلمين ” عن مصر وبقية المنطقة العربية  – حتى بلغت هذه الاستثمارات في عام 2021 ما يتراوح بين 50.0 إلى 53.0 مليار دولار شاملة الودائع المصرفية وغيرها من أوجه الاستثمارات (3).

بيد أنّ هذا لم يكن مجال التعاون المصري – السعودي الوحيد، فهناك مجالات أخرى ينبغي التعرّض لها بالتفصيل. 

لقد تمثلت عناصر العلاقات الاقتصادية بين البلدين في مجالات متنوعة بعضها قديم وبعضها الآخر جديد، اتخذ أبعاداً واسعة، كان من أبرزها: 

1- زيادة حجم العمالة المصرية بمختلف مستوياتها وأنواعها العاملة في المملكة السعودية.

2- زيادة حجم الاستثمارات السعودية (الحكومية والخاصة) في مصر.

3- زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين.

4- زيادة تدفق مئات الآلاف من المصريين عبر رحلات “الحج” و” العمرة “.

5- زيادة حجم القروض والإيداعات المصرفية السعودية لدى الجهاز المصرفي المصري.

 فلنتناول كلاً منها بشيء من التفصيل: 

أولاً: مجالات العمالة المصرية وخصائصها في المملكة السعودية

تتميز العمالة المصرية في المملكة السعودية وبقية الأقطار العربية الشقيقة بمجموعة من السمات التي برزت خلال السنوات الخمسين الماضية، ولعل أبرزها:

1- أنها من الاتساع بحيث شملت مختلف التخصصات والمهن، وجذبت في إطارها فئات اجتماعية عديدة لم تكن من قبل تدخل ضمن هذا النشاط الاجتماعي والمهني الجديد (الفلاحين والمزارعين مثلاً).

2- أنها في اتساعها هذا قد أدت إلى حراك مهني واسع أيضاً، بمعنى اتجاه عدد ليس بقليل ممن يمتهنون حرفة معينة إلى استبدالها بأخرى تجد مكاناً لها في سوق العمل العربي.

3- أن الصيغ أو الأشكال القانونية أو التعاقدية التي تتخذها هذه الحركة شبه الجماعية للعمال والمهنيين المصريين قد تبدّلت، بحيث أصبحت السمة المميزة هي “التعاقدات الشخصية” بديلاً عن صيغ الإعارات الحكومية أو ” التعاقدات الجماعية”.

4- أن قاعدة البيانات في مصر ظلت قاصرة عن ملاحقة هذا التدفق السنوي للمغادرين والراغبين في العمل بالخارج لأسباب عديدة، نذكر منها: اتجاه عدد كبير من هؤلاء المغادرين إلى السفر بتأشيرات متنوّعة لا تعبّر بوضوح عن الظاهرة (سياحة – حج – عمرة – زيارة.. إلخ)، وقصور الأدوات الإحصائية عن ملاحقة سوق العمل غير المنظم (القطاع الخاص)، ومن ثم عدم توافر بيانات دقيقة وتفصيلية وموثوق بها في هذا المجال تحديداً. 

وهو ما يمثل الثغرة الحقيقية في البيانات المتوفرة لدى مختلف الأجهزة الإحصائية بشأن العمالة المصرية في الخارج. هذا إضافة إلى عدم التنسيق بين الأجهزة الإحصائية المختلفة ووضع نماذج موحدة لجمع البيانات، وكذلك عدم وضوح التفرقة بين مفهوم الرصيد Stock المستمر وشبه الثابت للعمالة بالخارج ومستوى التدفق Follow السنوي للعمالة المصرية بالخارج، وأخيراً عدم تكامل العلاقة بين الجاليات المصرية في الخارج والسفارات والقنصليات المصرية في الأقطار التي يقيمون فيها.

وقد ساهم تفعيل القانون رقم 173 لسنة 1958 – بشأن عدم السماح بسفر المواطنين المتعاقدين للعمل بالخارج إلا ما بعد الحصول على تصريح للعمل معتمد من وزارة القوى العاملة ومكاتب الخبرة التابعة لها – في توفير بعض البيانات الخاصة بالمتعاقدين للعمل بالخارج من القطاع الخاص في مصر. 

وهكذا قفز العدد المسجّل لدى مصلحة الأمن العام من 167921 مواطناً عام 1984، إلى 595868 مواطناً عام 1985، والفارق هنا ذو دلالة معنوية واضحة، مع التأكيد بأنها لم تكن تشمل المسافرين إلى العراق والذين زاد عددهم على 2 مليون مصري قبل غزو وضم العراق للكويت في آب/أغسطس من عام 1990، وما جرّته على العراق وبقية المنطقة العربية من كوارث ومحن.

على أي حال ووفقاً لبيانات وزارة القوى العاملة والهجرة فقد بلغ عدد المصريين العاملين في 6 دول عربية فقط عام 1986 حوالى 1.5 مليون شخص أكثرهم كان في السعودية (377 ألفاً)، والكويت (141 ألفاً)، والعراق (100 ألف)، والأردن (100 ألف) .. إلخ (3) ، بينما قدّمت وزارة الخارجية المصرية بيانات وأرقاماً مختلفة تماماً عن حجم المهاجرين المصريين في الخارج ، سواء كانوا في هجرة مؤقتة ( للعمل) أو هجرة دائمة ( للإقامة) في بقاع الدنيا الواسعة، حيث قدرت الوجود المصري في دول الخارج عام 1986 بحوالى 2.0 مليون مصري، بخلاف الموجودين في الولايات المتحدة وغير المقيدين لديها حوالى 1.8 مليون، ويوجد في السعودية وحدها حوالى 845 ألف عامل مصري (4)، أي إن مجموع المصريين المهاجرين هجرة دائمة ومؤقتة وفقاً لتقديرات وزارة الخارجية المصرية حتى أيلول/سبتمبر عام 1986 قد تجاوز أربعة ملايين مواطن مصري. 

وقد تزايد عدد المصريين المهاجرين هجرة دائمة أو مؤقتة عاماً بعد آخر بحيث تجاوز عددهم عام 2021 حوالى 10.0 ملايين مصري، وتؤكد السيدة “سها جندي” وزيرة الهجرة وشؤون المصريين في الخارج بأن هناك 12 مليون مصري في الخارج، وأكبر جالية مصرية موجودة في المملكة العربية السعودية بعدد يصل إلى 2.5 مليون مصري. وأن هناك  600 ألف مصري في قطر والكويت وعمان  (5)

ويتوزع المصريون الموجودون في البلدان العربية والبالغ عددهم نحو 7 ملايين مصري، منهم قرابة 2.5 مليون في السعودية، وحوالى 1.5 مليون في المملكة الأردنية الهاشمية، وفي الإمارات العربية المتحدة قرابة 765 ألف مصري، والكويت نحو نصف مليون مصري، والسودان نحو نصف مليون مصري، وفي موريتانيا حوالى 150 ألف مغترب مصري. وفي تونس حوالى 8000 مصري، وفى سوريا حوالى 2000 مصري، إضافة إلى 2.5 مليون مصري يعيشون في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وأستراليا. 

وعموماً تتباين الأرقام الصادرة من المصادر الإحصائية المصرية في هذا المجال بصورة ملحوظة ما بين وزارة الهجرة والمغتربين في الخارج، وبين الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ووزارة الخارجية، ووزارة الداخلية. ويرجع ذلك لعدة أسباب، لعل بعضها يعود إلى تداخل البيانات والأرقام الخاصة بالمقيمين من المصريين وبين العاملين، وكذا بين الزوار والسياح الذين كسروا تأشيرة إقامتهم المؤقتة واستمروا في الإقامة المخالفة. 

على أي حال لقد شملت هذه الحركة الواسعة القطاعات المهنية والوظيفية والعلمية كافة بدءاً من أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والعلماء في تخصصات مختلفة، وانتهاء بعمال الإنتاج والكتبة وعمال طائفة المعمار والبناء. 

وتكشف بيانات التأهيل العلمي لهؤلاء العمال المصريين المهاجرين إلى الأقطار العربية – وفي مقدمتهم المملكة السعودية والكويت والإمارات سنوات الألفية الثالثة-أن الحاصلين على المؤهلات الجامعية وفوق الجامعية

(دكتوراة – ماجستير– دبلومات) قد تجاوز عددهم خلال (2000 -2009) حوالى 788 ألف عامل حازت المملكة السعودية على نصفهم تقريباً (6)

وقد أصبحت التحويلات المالية لهؤلاء العمال المصريين بنداً أساسياً في الاقتصاد المصري من ناحية ولضمان مستوى معيشي مناسب لذويهم  وأسرهم من ناحية أخرى.

وقد تعرضت حركة العمالة المصرية إلى السعودية وبقية الدول العربية والخليجية إلى تغيرات عميقة بعد الغزو والضم العراقي للكويت في آب/أغسطس عام 1990 لأسباب متعددة، لعل أهمها:

1- أن سوق العمل العراقي قد انهار تماماً أمام العمالة المصرية وغير المصرية نتيجة ما جرى من حرب تدمير العراق عام 1991، وما استتبعها من حصار اقتصادي خانق استمر ثلاثة عشر عاماً لاحقة، حتى جرى الغزو الإنكلو – أميركي لهذا البلد في آذار/مارس من عام 2003، وانتهى الأمر باحتلاله ومحاولات تقسيمه. 

2- استمرار سياسات التشغيل في دول الخليج القائمة على استبدال العمالة الآسيوية (الهند– باكستان – بنغلاديش.. إلخ) بالعمالة المصرية والعربية عموماً، وهي السياسة التي بدأت منذ مطلع عقد الثمانينيات وازدادت وتيرتها بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990.

3- توتر العلاقات السياسية بين الحكومات العربية جميعاً بعد احتلال العراق عام 2003، وما تبعها من جرائم إسرائيلية ضد لبنان وغزة، مما انعكس سلباً على حركة العمالة المصرية في الدول العربية النفطية وغير النفطية.

وهكذا بدأت بوادر حركة “الهجرة الانتحارية ” لمئات الشباب المصريين  وغير المصريين عبر البحر المتوسط في رحلات غير مشروعة للبحث عن فرصة حياة جديدة في دول الاتحاد الأوروبي، والانتظار في طوابير طويلة أمام سفارات الدول الأجنبية  بحثاً عن فرصة للهجرة إلى هناك. 

ثانياً: تحويلات العمالة المصرية من المملكة السعودية 

جانب آخر من صورة العلاقات الاقتصادية المصرية السعودية، والذي استحوذ على مجال الاهتمام الأوسع بين البلدين وهو مقدار هذه التدفقات النقدية “Flows” والعينية من العاملين المصريين في المملكة وتحويلاتهم المالية إلى ذويهم وأسرهم في مصر. ففي عام 1974 لم تكن تحويلات العاملين المصريين في الخارج عموماً تتجاوز 158 مليون جنيه مصري 

(أي ما يعادل 450 مليون دولار بأسعار صرف هذا العام)، ثم أخذت في التزايد عاماً بعد آخر، وشكّلت مع المصادر الثلاثة الأخرى (البترول – قناة السويس – السياحة) الركائز الأساسية لمصادر النقد الأجنبي في البلاد.

وخلال الخمسة عشر عاماً الأولى من عمل المصريين في المملكة السعودية (1974-1990) بلغ حجم التحويلات المالية النقدية والعينية 

(الاستيراد من دون تحويل عملة) حوالى 49.8 مليار جنيه مصري (7)، وهو ما يكاد يعادل حوالى 20.0 إلى 25.0 مليار دولار بسعر الصرف الساري في تلك السنوات.

ومع تزايد أهمية هذا العنصر المالي وتحت ضغط وتوجيهات بعثات صندوق النقد الدولي، رأت السلطات النقدية ضرورة تعديل أسعار صرف الجنيه المصري بالنسبة إلى العملات الرئيسة؛ من أجل جذب مزيد من هذه التحويلات؛ فمنح الدولار سعراً تشجيعياً بحيث أصبح سعره 70.7 قرشاً للدولار عام 1979 بدلاً من 39.1 قرشاً للدولار، ثم إلى 287.4 قرشاً للدولار الأميركي عام 1985، واستمرت هذه السياسة في الاتباع حتى نهاية عقد التسعينيات حتى قارب 532.4 قرشاً للدولار في عام 2003/2004 (8)  وها هو اليوم (عام 2023) يكاد يقترب من 30.0 جنيهاً مصرياً لكل دولار أميركي.

وبهذا زادت تحويلات العاملين المصريين في الخارج عموماً عاماً بعد عام من 7.3 مليارات دولار عام 1992/1993، حتى قاربت في نهاية عام 2020 حوالى 30.0 مليار دولار، ووفقاً لبيانات البنك المركزي المصري، فقد بلغت تحويلات العاملين المصريين في الخارج طوال فترة الثمانية عشر عاماً الممتدة من عام 1990/1991 حتى العام 2007 /2008 حوالى 87.2 مليار دولار (9) وإذا أخذنا الفترة  الممتدة منذ عام 1974 حتى عام 2008 فإن الرقم يتجاوز 140 مليار دولار أميركي، وهو مبلغ هائل بكل المقاييس لو أمكن استثماره في خطة تنمية حقيقية، وإذا أضفنا السنوات التي أعقبت الثورة المصرية في يناير عام 2011  حتى عام 2021 فإن الرقم يزيد عن 100.0 مليار دولار أخرى. (10) 

والحقيقة أن نصيب المملكة السعودية من هذه التحويلات لم يكن يزيد على 15% في المتوسط سنوياً من هذه التحويلات، واللافت أنها أخذت في الانخفاض بعد ذلك من 21.3% عام 2003/2004 إلى 11.2% عام 2007/2008 من إجمالي هذه التحويلات (11)

إذاً الاتجاه العام هو انخفاض نصيب العمالة الموجودة في المملكة السعودية من التحويلات مقارنة ببقية تحويلات المصريين في الخارج، بسبب انخفاض أعداد المصريين العاملين في المملكة من ناحية، واتجاه كثيرين منهم إلى الاحتفاظ بمدخراتهم في صورة حسابات مصرفية خارج مصر، أو في بنوك المملكة وبقية دول الخليج.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى