آفاق الهجوم الروسي الجديد
كتب د. صلاح الغول, في “الجزيرة” :
بدأت روسيا هجوماً واسعاً ومكثفاً على الجبهة الشمالية، ومركزها مقاطعة خاركيف منذ 10 مايو الجاري. وهذا التطور سوف يكون له ما بعده؛ فقد يُنهي الحرب لمصلحة روسيا، وقد يجرها إلى مواجهةٍ مفتوحة مع حلف الناتو!
وبرغم المكاسب التكتيكية الكبيرة والمستمرة التي تُحققها القوات الروسية شمال وشرقي مدينة خاركيف، يبدو أنّها تعطي الأولوية حالياً لإنشاء «منطقة عازلة» (بعمق 10 كم) على طول الحدود الدولية في مقاطعة خاركيف، وليس تهيئة الظروف لتحقيق اختراقات أعمق في الجبهة الشمالية.
وبمواكبة هجوم الربيع/ الصيف الروسي، تم تعيين الخبير الاقتصادي أندريه بيلوسوف، النائب الأول لرئيس الوزراء في التشكيلة الحكومية السابقة، وزيراً للدفاع خلفاً لسيرغي شويغو، الذي تولى منصب سكرتير مجلس الأمن القومي. فيما تم الإبقاء على رؤساء أجهزة الأمن الرئيسية (أهمها المخابرات الخارجية، والأمن الاتحادي الروسي/ إف إس بي، ووزارة الداخلية، ورئاسة أركان القوات المسلحة) أو مجموعة «سيلوفيكي» في مناصبهم، وهم الموالون للرئيس فلاديمير بوتين، ولهم تأثير معتبر في قراراته المتعلقة بالأمن القومي.
ويُعد تعيين بيلوسوف وزيراً للدفاع تطوراً مهماً، في ضوء ما ورد في بيان المتحدث باسم الكرملين في 12 مايو/ أيار الحالي، حيث أكّد أنّ الفائز «اليوم في ساحة المعركة،… هو الأكثر انفتاحاً على الابتكار. وبالتالي، من الطبيعي أنه في المرحلة الحالية أن يقرر الرئيس أن [يسند] وزارة الدفاع إلى [شخص] مدني». كما أن تعيين هذا الخبير الاقتصادي لرئاسة وزارة الدفاع يشير إلى حاجة الرئيس بوتين إلى مواءمة الاقتصاد الروسي بشكل أوثق مع المجهود الحربي، وتهيئة الظروف الاقتصادية لحرب طويلة الأمد في أوكرانيا، وربما الاستعداد لمواجهة مستقبلية مع حلف الناتو. ويُلاحظ أنّ افتقار بيلوسوف إلى الخبرة العسكرية ليس أمراً غريباً، إذ كان سلفه «شويغو» يفتقر أيضاً إلى خبرة الزي العسكري قبل أن يتولى وزارة الدفاع. كما أنّ فترة عمل بيلوسوف التي دامت ما يقرب من عقد من الزمن وزيراً للاقتصاد ومشاركته الأخيرة في إدارة العديد من مشاريع الابتكار في الصناعة الدفاعية المحلية ومشاريع الطائرات المسيرة تعده جيداً لقيادة وزارة الدفاع في هذه المرحلة التي تحتاج فيها إلى الابتكار وترشيد الإنفاق العسكري.
وبالنسبة للنقطة الأخيرة، فقد وصل الإنفاق العسكري الروسي إلى مستوى قياسي بلغ 6.7%، مقترباً من المستوى القياسي الأعلى في منتصف الثمانينات البالغ 7.4%. ومن هنا، تتضح حاجة روسيا لخبير اقتصادي لترشيد الإنفاق العسكري لا سيما أنّ العمليات الحربية سوف تمتد في أوكرانيا.
هذا، وقد تم الإبقاء على شويغو، وهو الصديق والمستشار الأقرب لبوتين، ولكن في منصب «سكرتير مجلس الأمن الروسي»، الذي تُتخذ فيه معظم قرارات السياسة الخارجية والداخلية.
على الجانب الآخر، وغداة الهجوم الروسي الواسع على شمال شرق أوكرانيا، تم إسناد قيادة جبهة خاركيف إلى العميد ميخايلو دراباتي، الذي كان نائباً لرئيس الأركان في الجيش الأوكراني والمسؤول عن التدريب العسكري. ولعل ذلك هدفه الاستفادة من خبرة دراباتي كرئيس سابق لمجموعة العمليات في مقاطعة «خيرسون»، التي أسهمت في تحرير جزء كبير من المقاطعة غربي نهر دنيبرو من القوات الروسية خلال الهجوم الأوكراني المضاد في صيف 2022. وبرغم وضع القوات الأوكرانية «الدفاعي» المتزايد الصعوبة، شهد هذا الأسبوع عدة ضربات أوكرانية بالمسيّرات ضد مقاطعة بيلغورود الروسية، وقاعدة جوية في شبه جزيرة القرم، والبنية التحتية النفطية والصناعية داخل روسيا.
ومن غير المرجح أن تنتهي الحرب في أوكرانيا قريباً. وبالتالي فإن الحدود بين روسيا وأوكرانيا ستكون ساحة لصراع ممتد إلى أجلٍ غير مسمى. ومن المرجح أن يهيمن التصعيد العسكري على مسار الحرب خلال الأشهر المقبلة بسبب مواصلة القوات الروسية هجومها، بل وتكثيفه وتوسيعه، على الجبهة الشمالية الشرقية، مع استمرار الاشتباكات الموضعية على طول خط الجبهتين الشرقية والجنوبية البالغ طوله نحو 1000 كم. أضف إلى ذلك أنّ القوات الروسية تحاول استغلال القيود المستمرة على الدفاعات الجوية الأوكرانية لتحقيق أهدافها في جبهات القتال. ومن شأن الوصول المتوقع للمساعدات العسكرية الأمريكية والغربية إلى مناطق الخطوط الأمامية أن يمكّن القوات الأوكرانية من مواجهة الهجوم الروسي. وتحاول روسيا إطالة أمد الحرب لفترة كافية لتقويض اقتصاد أوكرانيا، وإضعاف معنوياتها، وإرهاق حلفائها وشركائها في أوروبا. وقد تظل روسيا وأوكرانيا منخرطتين في حرب موضعية منخفضة النطاق لسنوات، كما كان الحال بعد توقيعهما على اتفاقيات مينسك عام 2014، التي أنهت فعلياً «المرحلة الساخنة» من حرب الدونباس.