رأي

آسيا على فوهة بركان

كتب د. أحمد قنديل في صحيفة بوابة الأهرام.

هناك لحظات في التاريخ تبدو فيها آسيا وكأنها تقف على فوهة بركان، تتلفت حولها بحثًا عن مخرج، لكنها لا تجد سوى طرق ضيقة تفضي إلى هاوية. وآسيا الآن، وعلى وجه الخصوص شرقها، يبدو أنها تقف على حافة واحدة من تلك اللحظات. فتصريح واحد نطقت به رئيسة وزراء اليابان الجديدة سنائ تاكايتشي تحت قبة البرلمان، كان كفيلًا بأن يعيد فتح ملفات الصراع الكبرى في شرق القارة الآسيوية، ويوقظ أشباحًا خيل للجميع أنها ما زالت نائمة.

قالت رئيسة الوزراء اليابانية إن أي تحرك صيني ضد تايوان، ولو كان حصارًا بحريًا، يمكن أن يكون سببًا لرد عسكري ياباني. ولم يكن هذا التصريح حديثًا مفاجئًا من سياسي مبتدئ، بل كان كلامًا محسوبًا من امرأة صعدت في سلم السياسة اليابانية على خطى رئيس الوزراء الياباني الأسبق شينزو آبي، الرجل الذي دعا إلى “خروج المارد العسكري الياباني” من قمقمه الذي وُضِعَ فيه بعد الحرب العالمية الثانية.

الواقع أن طوكيو، ومن ورائها واشنطن، تنظر إلى تايوان باعتبارها حلقة في سلسلة دفاعية تمتد من المحيط الهادئ حتى بحر الصين الجنوبي. أما بكين فترى الجزيرة جزءًا من تاريخها وخرائطها وجغرافيتها النفسية، ولا تقبل أن تعلن الانفصال أو الاستقلال عنها. ومن هنا بدأت القصة: خط أحمر صيني من جهة، وتحذير ياباني مبكر من الجهة المقابلة.

بكين لم تتأخر على تصريح تاكايتشي. حيث ردت بكل دوائرها: وزارة الخارجية، والدفاع، ومكتب شئون تايوان، وحتى الإعلام الرسمي الذي يعرف كيف يشحذ اللغة عندما يريد.

بل ذهب منشور كتبه القنصل الصيني في أوساكا، قبل أن يُحذف، كان أشبه برسالة غضب عارمة، عندما تحدث عن “قطع العنق القذر” لمن يتدخل. وقد بدا الأمر وكأن بكين تريد أن تدق طبول الحرب لليابان من بعيد. بالطبع، الأمر ليس حربًا على وشك الوقوع، بل الإيقاع الأول الذي يسبقها.

ثم جاء استدعاء السفراء، وهي خطوة تقليدية لكنها تحمل رمزية واضحة. وبعدها اتخذت بكين طريقًا آخر: الاقتصاد. وجهت تحذيرًا لمواطنيها بعدم السفر إلى اليابان، وهي ضربة يمكن أن تحدث شرخًا في قطاع السياحة الياباني الذي يعتمد على نحو ثمانية ملايين زائر صيني سنويًا.

ولم تكتف بكين بذلك، بل ألمحت، بطرق غير مباشرة، إلى سلاح أكثر خطورة، وهو وقف تصدير المعادن النادرة، وهي الجزء الخفي الذي تعتمد عليه صناعات اليابان الحديثة. بكين لم تستخدمه، لكنها لوحت به فقط، وربما كان مجرد التلويح كافيًا لإيصال الرسالة.

هنا بدت طوكيو وكأنها تمشي على حبل مشدود. فدستور ما بعد الحرب العالمية الثانية لا يزال يقيد حركتها، لكنه لم يعد القيد الذي كان. فمنذ سنوات، ومع قانون “الدفاع الجماعي” الذي مرره آبي في عام 2015، تحركت اليابان خطوة بعد أخرى نحو توسيع مفهوم الدفاع عن النفس. والآن جاءت تاكايتشي لتضيف خطوة جديدة، تحمل في طياتها تساؤلًا كبيرًا: هل تستعد اليابان للتعامل مع أي صدام في مضيق تايوان باعتباره تهديدًا وجوديًا للأمن القومي الياباني؟

السؤال لا يتعلق بطوكيو وحدها. فالولايات المتحدة، اللاعب الأكبر في المشهد الأمني والإستراتيجي في شرق آسيا، تقف في الخلفية، تراقب وتناور وتستثمر في كل إشارة. تحالفها مع اليابان هو العمود الفقري لإستراتيجيتها في آسيا، وواشنطن تعرف أن أية أزمة في تايوان ستضع اليابان في قلب اللعبة شاءت أم أبت. ومن هنا تبدو تصريحات رئيسة وزراء اليابان، رغم جرأتها، امتدادًا لمنطق أوسع يتجاوز حدود الأرخبيل الياباني.

لكن للصين أيضًا حساباتها. فهي قوة صاعدة تزاحم على موقعها في العالم، ولا تريد لأحد أن يناقش “الوحدة الوطنية” على طاولة الآخرين. وهي ترى أن بقاء تايوان خارج سيطرة بكين ليس مجرد مشكلة سياسية، بل جرح مفتوح في سردية صعودها القومي.

المشهد إذن ليس مجرد خلاف بين دولتين، بل صراع بين رؤيتين: رؤية صينية تريد تثبيت نفوذها في محيطها الحيوي، ورؤية يابانية – أمريكية ترى أن هذا النفوذ إذا تمدد بلا قيود سيغير وجه آسيا وربما العالم.

وفي ظل هذه الحسابات، تصبح مسألة تايوان والجزر المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي مجرد تفاصيل صغيرة في لوحة أكبر. البركان يمكن أن ينفجر في أي لحظة خاصة مع انتشار الدوريات العسكرية الأمريكية والصينية في هذه المناطق.

طوكيو الآن تحاول أن تهدئ الموج، وبكين تحاول أن تعلن الخطوط الحمراء، والولايات المتحدة تراقب، وكوريا الشمالية تقف في الخلفية كاحتمال آخر للتصعيد.

وتايوان، الصغيرة مساحة، الكبيرة وزنًا، تقف في قلب البركان، وهي تعرف أن مصيرها قد يصبح عنوانًا لمعركة كبرى إذا انزلقت المنطقة إلى الخطأ.

وهكذا، يمكن أن يظل البركان في آسيا ساكنًا لبعض الوقت، إلا أنه قد ينفجر في لحظة واحدة. لكن المؤكد أن منطقة شرق آسيا تدخل مرحلة جديدة، تزداد فيها حرارة السياسة، ويتقاطع الاقتصاد مع الأمن، وتصبح كل كلمة، حتى لو قيلت في البرلمان، قادرة على أن تحرك أساطيل في البحر، أو تغير اتجاه الريح في سماء القارة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى