هل تسير أرمينيا في الطريق الذي اختارته أوكرانيا؟
عادت موسكو لتحذر من احتمالات تحول أرمينيا إلى طريق أوكرانيا الذي سبق وجنحت إليه مع أولى بوادر الثورات الملونة في مطلع القرن الـ21.
وكان رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان غاب عن قمة رؤساء بلدان الكومنولث التي عقدت في عاصمة قيرغيزستان بيشكيك الأسبوع الماضي، إلا أنه ألقى خطاباً في البرلمان الأوروبي انتقد فيه قوات حفظ السلام الروسية واتهمها بالتقاعس في حماية السكان الأرمن الذين كانوا يعيشون في ناغورنو قره باغ، كما حمل بشدة ضد روسيا واتهمها بالتقاعس وعدم الوفاء بالتزاماتها.
وأثار هذا الخطاب ردود فعل في عدد من عواصم بلدان الكومنولث (السوفياتية السابقة) تباينت بقدر تباين علاقات كل من هذه الدول مع أرمينيا، وإن كانت اتسمت بقدر كبير من الحدة لدى كل من روسيا وأذربيجان.
خطاب “استفزازي”
وصفت موسكو خطاب باشينيان أمام البرلمان الأوروبي بأنه “استفزازي وغير مسؤول”، فيما نقلت وكالتا “تاس” و”ريا نوفوستي” الروسيتان الحكوميتان عن مصدر لم تشيرا إلى اسمه، قوله إن رئيس الحكومة الأرمينية “يسير على خطى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خصوصاً في ما يتعلق بروسيا والعلاقات الروسية – الأرمينية”.
واستطردت الوكالتان بالقول نقلاً عن المصدر نفسه “عالي المستوى”، “إننا نرى كيف يحاولون تحويل أرمينيا إلى أوكرانيا رقم 3، إذا اعتبرنا مولدوفا، “أوكرانيا رقم 2″، في وقت يخطو فيه باشينيان خطوات كبيرة على طريق زيلينسكي”.
وقالت الوكالتان الروسيتان اللتان نشرتا تصريحات المصدر ذاته بفارق زمني بسيط لا يتعدى دقائق قليلة، “ربما تشهد علاقات روسيا مع يريفان، العضو في كل من منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، أسوأ فترة منذ وجود جمهورية أرمينيا المستقلة”.
وكانت أرمينيا أثارت امتعاض موسكو حين صادق رئيسها على “وثيقة روما الأساسية” التي تستند إليها المحكمة الجنائية الدولية، التي تلاحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومفوضة شؤون الأطفال الروسية ماريا لفوفا – بيلوفا في قضايا تقول موسكو بعدم صحتها وتتعلق بتهجير أطفال من مناطق الحرب في أوكرانيا إلى روسيا.
وتناول خطاب باشينيان أمام البرلمان الأوروبي علاقات بلاده مع روسيا، التي تعمد عدم الإشارة إليها بالاسم، وقال إن هناك دول “عليها التزامات” تجاه أرمينيا ووقعت معها حوالى 200 اتفاق منها معاهدة الصداقة والتعاون المتبادل، بما تنص عليه من تقديم العون والمساعدة العسكرية والتصدي للعدوان، مؤكداً أنها لم تقم بواجبها والتزاماتها.
كما تطرق باشينيان إلى “المحاولات المبذولة من الخارج لتقويض الديمقراطية الأرمينية وسيادة أرمينيا، فضلاً عن العدوان الخارجي في ظل تقاعس حلفاء أرمينيا في المنطقة”. وقال رئيس الحكومة الأرمينية إنه خلال تفاقم الصراع مع أذربيجان في عام 2021، “لم تقدم قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي والبلدان التي لديها التزامات أمنية ثنائية مع أرمينيا إلى يريفان أية مساعدة على الإطلاق”.
وأضاف أن بلاده وعلى نحو دوري، ظلت تواجه طوال السنوات الثلاث الماضية عدواناً خارجياً، في ظل “تقاعس الحلفاء”، ومحاولات استخدام الوضع الصعب “لتقويض الديمقراطية” فيها. كما أضاف أنه خلال عملية أذربيجان في ناغورنو قره باغ في عام 2023، لم يقدم حلفاء أرمينيا “الأمنيون” (يقصد روسيا) المساعدة، بل “أطلقوا دعوات عامة لتغيير السلطة في يريفان”، على حد قوله.
كما وجه باشينيان نقداً شديداً إلى قوات حفظ السلام الروسية جزاء ما وصفه بـ”تقاعسها”، الذي “رحل بموجبه في أسبوع واحد عن قره باغ ما يزيد عن 100 ألف أرمني”.
بوتين يلقي بالمسؤولية على باشينيان
وكان لا بد إزاء مثل هذه الاتهامات أن تعلن روسيا حقيقة الموقف وما وراء السياسات الأرمينية. ومن هنا أعلن الرئيس فلاديمير بوتين أن رئيس الحكومة الأرمينية سبق واعترف بأن إقليم قره باغ أصبح جزءاً من أذربيجان منذ العام الماضي.
وأضاف بوتين أن باشينيان جاهر بمثل هذه الاعترافات في اجتماع براغ الذي عقد العام الماضي، “وهذا هو ما غير بشكل جذري من وضع قره باغ”. وبناء على ذلك حذرت وزارة الدفاع الأذربيجانية من أن الغرض من “العملية الخاصة” التي قامت بها كان يستهدف استعادة النظام الدستوري وانسحاب القوات الأرمينية، وحل السلطات المحلية في ستيباناكيرت (عاصمة الإقليم)، واسمها باللغة الأذربيجانية خان كيندي. وأعقب ذلك إعلان أرمينيا وروسيا الحياد.
وقال بوتين إن ذلك كان مفاجأة له. ففيم كان الخلاف إذاً؟ ولماذا يلقي باشينيان باللوم على القوات الروسية لحفظ السلام؟
كما أن باشينيان عاد ليعلن في خطابه الذي ألقاه في البرلمان الأوروبي أن “الاتحاد الأوروبي شريك رئيس يدعم الإصلاحات الأساسية للحكومة الأرمينية في السنوات الأخيرة”، وأشار أيضاً إلى أن يريفان ملتزمة “بمواصلة تعزيز العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وأرمينيا”.
واختتم حديثه بالقول “أستطيع أن أقول بوضوح وبثقة إن جمهورية أرمينيا مستعدة لتكون أقرب إلى الاتحاد الأوروبي، بالقدر الذي يراه الاتحاد الأوروبي ممكناً”.
ومع ذلك فشكل العلاقات بين أرمينيا والاتحاد الأوروبي أقل عمقاً. وكان الطرفان وقعا على اتفاق شراكة شاملة. وفي الوقت نفسه، فإن أرمينيا في وضع فريد من نوعه، فهي عضو في الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي وفي منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
وذلك في وقت يظهر فيه باشينيان باستمرار استعداده للانتقال إلى مستوى مختلف من العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. ولذلك من غير المعروف كيف ينوي التعامل مع التحالفات التي تضم أرمينيا وروسيا.
وكان باشينيان انتقد “حلفاء التنظيمات الأمنية” من دون تسمية بلدان محددة (سواء روسيا أو بلدان منظمة الأمن الجماعي). وذلك فضلاً عن اتهاماته لـ”قوات حفظ السلام الروسية” بالتقاعس عن العمل، على خلفية إعادة توطين سكان قره باغ الأرمن.
وتعليقاً على ذلك أشار المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف إلى أن موسكو لن تقبل أبداً اللوم وتوجيه الانتقادات إلى قوات حفظ السلام في ناغورنو قره باغ، وشدد على أنهم يظهرون بطولة حقيقية في أداء وظائفهم وفقاً لما يملكونه من صلاحيات وتفويض.
“الالتزام بتطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي”
وإذ أشار باشينيان إلى أن بلاده تتلقى ضربات خطرة من مصدر جديد وهو “العدوان الخارجي”، إلى جانب محاولات “الحلفاء” استخدام العنف العسكري للإطاحة بالحكومة في يريفان، أوضح أن “ذلك يتجلى في التقنيات الهجينة وفي الحروب الداخلية التي تشعلها وتوجهها قوى خارجية”.
كما كشف عن أنه خلال تصاعد الصراع مع أذربيجان في عام 2021، “لم تقدم قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي والبلدان التي لديها التزامات أمنية ثنائية مع أرمينيا أية مساعدات ليريفان على الإطلاق”.
وفي خطابه سالف الذكر شدد باشينيان على أن يريفان ملتزمة بتطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، كما تسعى جاهدة إلى توسيع العلاقات الاقتصادية معه. وفي قمة غرناطة بإسبانيا، التي عقدت في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، أكد وممثلو الاتحاد الأوروبي عزمهم على تعزيز العلاقات الثنائية “في جميع الأبعاد، استناداً إلى احتياجات جمهورية أرمينيا” (تم التوقيع على إعلان، اعترف فيه باشينيان بمساحة أذربيجان في إطار 86.6 ألف كيلومتر مربع، أي أنها تضم ضمناً أراضي قره باغ).
كما أعرب باشينيان “عن أمله في التعاون مع الاتحاد الأوروبي في مواصلة إصلاح وكالات إنفاذ القانون والمحاكم ونظام الإدارة العامة في أرمينيا”.
ولعل كل ما تقدم ذكره يبدو قريباً مما جاهر به رئيس الحكومة الأرمينية خلال أولى محاولاته للانضمام إلى “الثورات الملونة” في عام 2008 وفي عام 2015، قبل أن تكلل هذه المحاولات بالنجاح في عام 2018 الذي شهد تغيير الدستور ونظام الدولة، بحيث يكون الحاكم الفعلي رئيس الحكومة وليس رئيس الجمهورية. وها هو باشينيان يعود لمحاولاته السابقة للحاق بقطار الاتحاد الأوروبي، بعيداً من كل تعاقداته السابقة التي حاول من خلالها الابتعاد عن كل أشكال العنف التي تورطت فيها جارتاه جورجيا وأوكرانيا.
ماذا يقولون في روسيا؟
في الخامس من أكتوبر الجاري، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الجلسة العامة لمنتدى “فالداي” إن وضع قوات حفظ السلام الروسية في قره باغ يستند فقط إلى البيان الثلاثي لروسيا الاتحادية وأرمينيا وأذربيجان الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، ووفقاً له اقتصرت صلاحياتهم على “مراقبة وقف إطلاق النار”. وفي الـ13 من أكتوبر الجاري وفي مؤتمر صحافي في ختام زيارته لقيرغيزستان، قال بوتين إن قوات حفظ السلام يجب أن تبقى في المنطقة رسمياً حتى عام 2025، وسيتم حل هذه المسألة في المفاوضات مع الحلفاء.
وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وفي حديثه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الـ23 من سبتمبر (أيلول) الماضي، وجه اتهامات إلى كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بزعزعة استقرار الأوضاع في جنوب القوقاز، “وفرض خدمات الوساطة الخاصة بهما على أذربيجان وأرمينيا”. وأكد أن قوات حفظ السلام الروسية “أسهمت بكل الطرق” في إرساء وضع سلمي في ناغورني قره باغ.
وفي الوقت ذاته أشار لافروف إلى وجود “لوبي قوي” في أرمينيا يهتم بتعزيز مصالح الغرب و”تقويض نفوذ روسيا”، وها نحن الآن في أكتوبر من العام نفسه نجد أنفسنا أمام واقع يقترب في جوهره مما تبتغيه جورجيا وأوكرانيا ومعهما مولدوفا وأرمينيا من التقارب مع الاتحاد الأوروبي، بعد أن خطت مشواراً لا بأس به من الابتعاد عن منظمات “الكومنولث” السوفياتية الشكل والطابع، في وقت لا يزال بوتين يترك الباب مفتوحاً أمام عودة “الابن الضال”.