رأي

هل تجاوزت مصر عقبة تهجير الفلسطينيين

كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.

سواء تخطت مصر مخطط التهجير بحكمتها أو لعدم رغبة إسرائيل في تنفذيه أو حتى جراء تمسك الفلسطينيين بأرضهم في كل الحالات يظل مستقبل قطاع غزة مؤرقا للقاهرة.

شُغلت شريحة كبيرة من المصريين على مدار العام الذي شهدت فيه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عمليات تدمير من أن تؤدي هذه السياسة الممنهجة إلى نزوح قسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين إلى داخل الحدود المصرية، وأعلنت القاهرة مرارا رفضها لأي مخطط خفي للتهجير، واتخذت الكثير من الإجراءات الأمنية على الحدود كي لا تواجه واقعا تبدو فيه مرغمة على قبول النازحين، إذ لن تستطيع صدهم بالقوة وإجبارهم على العودة تحت قصف كثيف من النيران الإسرائيلية.

بعد أكثر من عام على الحرب وروافدها المتشعبة، بدت القاهرة شبه مطمئنة لابتعاد شبح تهجير الفلسطينيين إلى أراضيها، حيث خفتت حدة الضربات في جنوب غزة، وركزت إسرائيل على الجبهة الشمالية لمواجهة حزب الله اللبناني، واطمأنت لكسر الشوكة العسكرية لحركة حماس في غزة، مع أن مصر استقبلت رسميا، ولأسباب مختلفة منها ما هو لدواعٍ إنسانية ومرضية، أكثر من مئة ألف فلسطيني، لكن ظلت غالبية الفلسطينيين رابضين في القطاع ولم يغادروه وتحملوا خسائر بشرية فادحة.

المثير للانتباه أن بعض المراقبين شككوا في وجود مخطط أصلا لتهجير فلسطينيين إلى مصر، وأن إسرائيل لم تكن جادة في نقل سكان غزة إلى سيناء، على الرغم من بعض التقديرات الرسمية التي كشف عنها وأشارت إلى سعي لتفريغ القطاع من سكانه وأن توطينهم في سيناء هو خيار مثالي.

واستند هؤلاء لدعم رؤيتهم إلى أن إسرائيل لو كانت جادة في هذا المخطط لمارست قواتها ضغوطا أشد قسوة على السكان في جنوب غزة ودفعتهم نحو الأراضي المصرية، لكن كيف يحدث ذلك وهي التي انسحبت من القطاع طواعية منذ أكثر من عقدين ثم تأتي وتتمسك به وتعلم أن مشاكله سوف تمثل إزعاجا دائما لها؟

قد تكون هذه الرؤية حاملة لقدر من الوجاهة، لكن النقطة الحيوية في هذا الملف تكمن في اختلاف الحسابات الإسرائيلية بين إرئيل شارون الذي قرر الانسحاب وقتها وبين بنيامين نتنياهو الذي يريد البقاء في القطاع، فالأول تمنى أن يرى غزة وقد ابتلعها البحر، بينما يعتقد الثاني أن ابتلاعها داخل إسرائيل أو جزء منها صار أكثر جدوى، فالتصرفات التي قامت بها حماس أحدثت تحولات في حسابات نتنياهو.

أضف إلى ذلك ما يكتنف سيناريو التهجير قسرا من صعوبات، فقيام إسرائيل بتنفيذ هذا المخطط باتجاه مصر ينطوي على تحديات تقلل من أهميته، فإذا أرادت تل أبيب المضي قدما فيه لن يكتب له النجاح دون تفاهمات واضحة مع القاهرة، لأن الخطوة في النهاية يمكن أن ترتد تداعياتها السلبية على إسرائيل ما لم تحصل على موافقة مصرية، حيث تنتقل المقاومة من غزة إلى سيناء التي تملك حدودا تصل إلى نحو 250 كيلومترا مع إسرائيل، وهو ما لوّح به الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في بداية الحرب عندما أشار إلى خطورة التهجير على إسرائيل ذاتها، واقترح استيعاب فلسطينيي غزة في صحراء النقب أفضل.

تخطت مصر الكثير من مطبات عملية التهجير حتى الآن، لأنها رافضة له وغير مستعدة لإبداء مرونة فيه لحسابات تتعلق بالأمن القومي، وعدم تفريغ القضية الفلسطينية من مضامينها، وفي مقدمتها وجود شعب يريد التخلص من الاحتلال وإقامة دولة قابلة للحياة، وأي تفريغ واسع للسكان يسقط هذه الثوابت، والأخطر أنه يصدر أزمات لمصر لا حدود لها، في وقت تحاول فيه الدولة إعادة رسم خارطة سيناء بما يجعل التنمية فيها مستمرة وجذابة.

كما أن سيناريو التهجير لا يقتصر على غزة، بل سيكون أشد ضراوة في الضفة الغربية المليئة بالمستوطنات ويريد المتطرفون احتلالها بالكامل ونقل سكانها الفلسطينيين نحو الأردن، والذي سيواجه معضلة هيكلية تتعلق بإخلال فاضح في تركيبته السكانية، وتتشكل من موزاييك أردني – فلسطيني ربما لا يحتمل هزة جديدة في الجغرافيا السياسية، والتي استطاع الحكم الهاشمي الحفاظ عليها وسط العواصف.

تمنح إسرائيل أولوية للضفة الغربية عن قطاع غزة في مسألة التخلص من الكتلة السكانية الأكبر في الأولى والأشد خطورة على المجتمع الإسرائيلي المتداخل معها، ما يعزز رؤية من ذهبوا إلى عدم جدية إسرائيل في تنفيذ مخطط التهجير نحو مصر، وأن ما طفا على السطح مبكرا هو نوع من الضغط على مصر لتظل بعيدة عن الحرب، ويقتصر دورها على الوساطة مع حماس.

تمكنت إسرائيل من شغل المصريين بمخطط التهجير، وزادت عليه بالسيطرة على معبر رفح ومحور فيلادلفيا، وكلاهما مثّل ضغطا معنويا على القاهرة، والتي تحلت بضبط النفس لأبعد مدى كي تمنع انهيار اتفاقية السلام مع تل أبيب ذات المكاسب الإستراتيجية، وتحول دون تورطها في حرب يصعب توقع مداها.

سواء تخطت مصر مخطط التهجير بحكمتها أو لعدم رغبة إسرائيل في تنفيذه، أو حتى جراء تمسك الفلسطينيين بأرضهم، في كل الحالات يظل مستقبل قطاع غزة مؤرقا للقاهرة، فالدمار الذي لحق به هائل وعملية إعماره تتطلب جهدا ووقتا وتوافقا، وحماس التي تتمسك بعدم التخلي عن إدارته تآكل جزء كبير من قوتها العسكرية والأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ولم تعد قادرة على مواصلة هيمنتها المرفوضة من جانب إسرائيل، والتي لم تحدد شكل اليوم التالي لوقف الحرب في القطاع، ناهيك عن ضعف السلطة الفلسطينية وعدم قدرتها على ممارسة صلاحيات فشلت فيها وهي في أوج قوتها، ما يعني أن مصر سوف تظل معنية بالقطاع وعليها التفكير بجدية في سيناريو يلبي تطلعات أطراف عديدة متناقضة في توجهاتها.

يعد القطاع هو البوابة التي سمحت لمصر لتكون مؤثرة في القضية الفلسطينية بعد الحرب وضاعف انخراطها بالوساطة من صعوبة تهميشها لحساب دول أخرى، حتى في لحظات ما قبل الحرب كانت تلعب دورا حيويا، ولم تظهر هذه الحيوية بصورة فعالة في الوساطة أخيرا بالشكل الفعال، لأن الحرب هذه المرة لها خيوط معقدة، يحتاج تفكيكها إلى تقديم تنازلات من أطراف عدة.

كما أن إسرائيل ذهبت بالحرب إلى أعلى قمة الجبل، كي تعيد صياغة منظومة في غزة وفلسطين والمنطقة عموما على مقاسها وتتواءم مع أهدافها الإستراتيجية للتخلص من كل ما يمثل صداعا لها في المنطقة، وأبرزها البحث عن مستقبل مناسب لغزة، ما جعل مصر في عين العواصف التي نجمت عما يدور في القطاع من تطورات متلاحقة، إلى حين إيجاد مخرج يتوافق مع المصالح المتقاطعة سلبا.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى