لماذا قررت السعودية ترك لبنان؟
هل يمكن أن يأتي يوم تدرج فيه تجربة نهوض المملكة العربية السعودية في مناهجنا الدراسية السياسية والتاريخية؟ فقد استطاعت هذه المملكة أن تتحول من مجرد صحراء قاحلة ومحطة موسمية للقادمين لأداء فريضة الحج إلى “دولة حقيقية” نهضت بها جهود المخلصين من أبنائها، الذين جعلوها في مصاف الدول التي استطاعت أن تجمع بين عراقة التاريخ وأمجاد الحاضر، وأن تلحق بركب التطور والازدهار، وتحجز لنفسها مكانة متقدمة بين الدول الأكثر تأثيراً في المشهدين الإقليمي والدولي على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية. وقد توجت هذه الجهود برؤية السعودية 2030 بمبادرة من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ومباركة من والده جلالة الملك سلمان بن عبد العزيز.
لماذا بنت السعودية دولة؟
كانت السعودية من الدول القليلة العصية على الاستعمار ويرجع الباحثون السبب في ذلك إلى تمسك مواطنيها في كل العهود بسلطة شرعية منبثقة منهم، قريبة من مصالحهم ومعتقداتهم، تلتزم رعاية المقدسات وحمايتها، فكسبت بذلك السلطات المتعاقبة ولاء أهل البلاد على امتدادها، وقد رسخ الملك المؤسس رحمه الله طريقة لتوحيدها والمحافظة على خيرها واستقلالها، ووعت الحكومات الاستعمارية أن هذه المنطقة من العالم تستمد قوتها واستقلاليتها من شرعية تاريخية قربتها من الناس ذوي الطبيعة المستقلة الرافضة لأي نوع من أنواع سيطرة المستعمر. وبفضل هذه السياسة الرشيدة تمكنت السعودية، على الرغم من كل الصراعات التاريخية والاختلافات الأيديولوجية في المنطقة وفي العالم، من إقامة علاقات طيبة ومد جذور التواصل والتعاون مع كل الدول والمنظمات الدولية. كما أكسبتها هذه السياسات دعم وشراكة الدولة الكبرى الباحثة عن حليف قوي في المنطقة تستند إليه في مختلف الشؤون الإقليمية. وقد حقق هذا الأمر للسعودية ميزة لم تضطر معها يوماً للوقوف بمفردها، بل حظيت دائماً بدعم وتأييد وحتى حماية الدول الكبرى كما تمكنت من توسيع شبكة علاقاتها الودية وتأثيرها الإيجابي مع العالمين العربي والإسلامي، خصوصاً مع حرصها على التوازن الحكيم في علاقاتها الخارجية الإقليمية والدولية. ومن المفارقات المدهشة أن السعودية التي طالما تفردت بخصوصيتها الدينية، استطاعت أن تتجاوز ما شهده العالم من انقسامات جيوسياسية وصدام حضارات وأن تحقق ازدهاراً مشهوداً في عالم متنوع، وأن تجد لنفسها مكاناً متقدماً في المجتمع العالمي وتكون جزءا لا يتجزأ منه. وهذا “الاحتفاء يأتي اعتزازا بالجذور الراسخة لهذه الدولة المباركة، وارتباط مواطنيها الوثيق بقادتها منذ عهد الإمام محمد بن سعود، وبداية تأسيسه للدولة السعودية الأولى، وما أرسته من الوحدة والأمن في الجزيرة العربية.”
رؤية السعودية 2030
حملت رؤية السعودية 2030 طرحاً تقدمياً يمكن وصفه بأنه أكبر مسيرة تحول تشهدها المملكة العربية السعودية، وتتطلع الرؤية إلى تحقيق اقتصاد سعودي مستدام ذو نمو سريع. وأهم ما يميز هذا الرؤية هو القيمة التي أولتها الرؤية للمواطن السعودي، إذ جعلته عنوان أحلام النهوض الجديدة ، خصوصاً وأنها تسعى للموازنة بين جعل المجتمع السعودي راسخ الجذور متين البنيان من جهة ويتمتع بنمط حياة متطور ومستدام وتكافل اجتماعي ورعاية صحية من جهة أخرى. كم تسعى الرؤية لتوفير بيئة داعمة لإمكانات الأعمال وتوفير فرص عمل لمواطنيها. وتسعى أيضاً لرفع أداء الحكومة السعودية وتعزيز الشفافية والمساءلة وتمكين المواطنين من استكشاف المتاح من الفرص للإسهام بتحقيق أهداف الرؤية.
وسوف يؤسس تعزيز النزاهة والشفافية في الدولة، لإيجاد حكومات تحافظ على المال العام ، ويحسن من جودة الخدمات العامة، وبيئة العمل والاستثمار، مما يجعل كل مواطن سعودي فخورا بما حققه بلده من إنجازات في هذه المجالات، وذلك بفضل رؤية قيادته الرشيدة المتمسكة بقيم النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد وبجعلها أولوية في سياسات المملكة
وقد سعى الأمير محمد بن سلمان إلى أن تحتل السعودية، كما فعلت دائماً، مكانة مرموقة بين أفضل دول العالم من حيث معايير الشفافية والنزاهة، فكان بحق الأمير “المحافظ” على الإنجازات والمكاسب والساعي لتحقيق ما هو أكبر. وكان وفيا للمؤسسين وتضحيات الأجداد، من خلال الجهد الصادق من أجل الوطن.
ولا يكاد يمضي يوم أو شهر أو عام دون أن تحقق المملكة تقدماً كبيراً في مختلف المجالات. ففي عام 2021، حققت السعودية قفزة نوعية في مجال تمكين المرأة وفتح أفاق جديدة لها في مختلف المجالات، ولا سيما في ريادة الأعمال، والسماح لها بقيادة السيارة، وهو ما كان ممنوعا سابقا. كما شهدت المملكة تطوراً كبيراً في وسائل النقل مع إنشاء المترو؛ وحققت إنجازات طبية عديدة، حيث تم تدريب الأطباء السعوديين على أعلى مستوى من أجل تحسين جودة الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين، وعملت على خلق العديد من فرص العمل مع رفع مستوى الاقتصاد على المستويين المحلي والدولي.
ومع دخول عام 2023، ما زالت الحكومة السعودية تعمل جاهدة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ابتداء بالتخطيط التنموي للمملكة العربية السعودية وتحقيق رؤية السعودية 2030 على أرض الواقع. وأهم ما سيتحقق من هذه الرؤية هذا العام هو زيادة إيرادات المملكة، وزيادة الاستثمار الأجنبي في السعودية، إضافة إلى برامج الإسكان التي استفادت منها آلاف الأسر السعودية عدا عن المحافظة على الآثار والتراث وبناء أكبر فندق في العالم.
في المقابل، وجه صاحب الجلالة الأمير محمد بن سلمان بتوسعة الحرمين الشريفين لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الحجاج والمعتمرين. كما وجه بإقامة منشآت بالقرب من الحرمين لتوفير الراحة للحجاج، ولزيادة عدد زوار المملكة العربية السعودية.
المملكة العربية السعودية ولبنان
حرص الأمير محمد بن سلمان صاحب رؤية 2030 ومؤسس طريق المستقبل والآمال الكبيرة على علاقات وثيقة مع لبنان، وعلى إبداء تقديره للدولة واحترامه لحلفائه ولتاريخ العلاقات الثنائية الطيبة مع لبنان وشعبه. ووقفت القيادة السعودية على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين وهي التي طالما سعت إلى التوسط لإيجاد حلول للأزمات التي تعصف بهذا البلد، تماما كما سعت لتفكيك أي فتيل للتفجير بدعم الحوار والحلول السياسية. ولم تكتف السعودية بالوقوف متفرجة على الأزمات الاقتصادية المتوالية التي شهدها لبنان، بل وثقت تقارير دولية أن حجم المساعدات التي قدمتها المملكة العربية السعودية للبنان خلال فترة خمسة عشر عاماً، تناهز ال70 مليار دولار. وأوضحت هذه التقارير أن السعودية ضخت في الدورة الاقتصادية اللبنانية بين 1990 و2015، أكثر من 70 مليار دولار، بشكل مباشر وغير مباشر، بين استثمارات ومساعدات ومنح وهبات، وقروض ميسّرة وودائع في البنوك والمصارف. وبحسب التقرير الذي يستند إلى مراجع علمية موثقة، حولت المملكة، إضافة إلى التقديمات السابقة، وديعة مالية بقيمة مليار دولار خلال حرب 2006، مشيرًا إلى أنه “ما بين 3 إلى 4 مليارات دولار، أي 10 في المائة من الودائع غير المقيمة في لبنان، هي مملوكة لمستثمرين سعوديين”.
غير أن التغيرات الجذرية في المشهد السياسي اللبناني وما شهدته الأجواء المشدودة من مواقف عدوانية تجاه دول الخليج بشكل عام والسعودية بشكل خاص، بالإضافة إلى التوتر الإقليمي والمخاطر التي فرضها اشتعال الجبهة اليمنية وما يفرضه من تحديات على الأمن السعودي، كل ذلك، أدى إلى تراجع الدور السعودي بشكل ملحوظ في لبنان وأن كان لبنان لا يغيب عن السياسة الخارجية السعودية في الكواليس الدولية. وقد تجلى التراجع السعودي عن الدور المعهود في لبنان أكثر ما تجلى مع انسحاب رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من المشهد السياسي اللبناني، حيث كادت العلاقات اللبنانية السعودية تنحصر في حضور دبلوماسي خفيف دون الانخراط الفعلي المعهود في تفاصيل المشهد اللبناني. وعلى الرغم من هذا الانكفاء الملحوظ تأمل الأوساط اللبنانية بعودة العلاقات بين البلدين إلى حيويتها السابقة بغض النظر عمن يتولى سدة رئاسة الحكومة في البلد، خصوصاً وأن الدور السعودي كان دائماً دوراً محورياً استطاع أن يحدث الكثير من التوازن في المشهد اللبناني في أحلك الظروف، فلا أحد من اللبنانيين يمكن أن ينسى أن السعودية كانت الراعي الرسمي لولادة اتفاق الطائف حيث سخرت كل ما أوتيت من قوة وتأثير وعلاقات إقليمية ودولية من أجل الدفع باتجاه التوصل إلى اتفاق يضع حدا لحمام الدم الذي استمر طويلاً في لبنان، فكانت ولادة اتفاق الطائف المشهود برعايتها وبمباركة دولية. فهل تشهد الساحة اللبنانية إعادة ضخ دم جديد في العلاقات مع السعودية يعود معه زخم الدور السعودي كما كان سابقاً؟