لماذا أصبح البريطانيون أضعف أجرا؟
في عام 1991، خلال فترات الركود، التي أعقب الشيوعية، كان البولنديون أفقر من مواطني سورينام (دولة في أميركا الجنوبية) والغابون (دولة في وسط أفريقيا)، ولكن بعد 30 عاماً، نمت بولندا بسرعة كبيرة لدرجة أنه بحلول نهاية هذا العقد، قد يكسب البولنديون أكثر من البريطانيين.
تعتبر بولندا قصة نجاح رائعة، لكنها ليست وحدها في ما يتعلق بلحاقها ببريطانيا، فمن المقرر أن تتفوق كل من كوريا الجنوبية وسلوفينيا على بريطانيا من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، في وقت مبكر من العام المقبل.
وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، يكسب الأميركيون أكثر مما يكسبه نظراؤهم في بريطانيا لدرجة أن الأميركيين، وبشكل جماعي، يمكنهم التوقف عن العمل في أواخر سبتمبر (أيلول) المقبل دون أن يتأثروا فيما سيكون على البريطانيين الاستمرار في العمل لبقية العام.
ومن حيث الإنتاجية، زادت -مقدار ما ننتجه في كل ساعة عمل، بنسبة خمسة في المئة فقط في بريطانيا على مدى 15 عاماً منذ بداية عام 2008، أي نحو 0.3 في المئة سنوياً فيما تعتبر اثنتان في المئة طبيعية.
التعافي
وفي حال تمكنت بريطانيا من التعافي إلى اتجاه النمو الذي سبق أزمة كورونا، فقد تكون الإنتاجية والأجور أعلى بنسبة 20 في المئة اليوم، وفقاً للرئيس التنفيذي لمجلس البحوث الاقتصادية والاجتماعية، لستيان ويستليك، وعندها ستكون بريطانيا مكاناً أكثر ثراء.
وبالنسبة لدول أوروبا الغربية، الأخرى فقد كافحت من مستوى أعلى بسعر 53.60 جنيه استرليني (68.85 دولار)، في الساعة، فيما ستكون الإنتاجية الفرنسية والألمانية أقرب إلى 74 دولاراً أميركياً في الساعة مقارنة بـ54 دولاراً في بريطانيا.
كما أثبت الاقتصاد الأميركي أنه أكثر قوة في مواجهة التضخم، إذ ارتفعت أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة بنسبة 2.9 في المئة خلال الأشهر الـ12 الماضية، مقارنة بـ7.9 في المئة في بريطانيا، بالتالي لو كانت المملكة المتحدة ولاية أميركية، فستكون أفقر ولاية في البلاد، مما يجعل السؤال الأبرز هو كيف أصبح البريطانيون فقراء إلى هذا الحد؟ وما الذي يمكن فعله لإصلاح هذا الأمر؟.
ركود كوفيد وأعباء الديون
تقول صحيفة “التايمز”، إن أحد الأسباب التي جعلت بريطانيا تستغرق وقتاً طويلاً لمواجهة هذه المشكلة المزمنة هو أن الطبقة السياسية والإعلامية المنعزلة كانت بطيئة في الاهتمام، فكثير من هؤلاء يعيشون في لندن ويشكلون جزءاً من نظام وراثي، وأصحاب ممتلكات استمرت في النمو من حيث القيمة.
تضيف الصحيفة، “نادراً ما يكون السياسيون البريطانيون جادين في أي شيء باستثناء إدارة الرأي العام، فقد تركوا كل اهتمام يأخذ الأولوية وفي طليعته النمو الاقتصادي للبلاد، فخلال الفترة القصيرة التي قضتها كرئيسة لوزراء، جلبت ليز تراس في الأقل إحساساً بالتركيز الجذري على هذه القضية، على رغم أن عديداً من الحلول المقترحة كانت معيبة”.
الخروج والركود وأعباء الديون
وكان حجم المشكلات التي واجهتها البلاد منذ عام 2008 كانت أعمق بكثير، إذ كان التعافي بعد الأزمة المالية أبطأ مما كان يأمل عديد من الاقتصاديين، ويرجع ذلك جزئياً إلى سوء إدارة بنك إنجلترا (البنك المركزي لبريطانيا).
ويقول مؤلف كتاب “وهم المال” The Money Illusion، سكوت سومنر، الذي يسرد التاريخ الحديث للأزمة المالية والركود اللاحق “كان الموقف السياسي لبنك إنجلترا متقلصاً للغاية في عام 2008 ولم يكن توسعياً بشكل كاف أثناء الانتعاش اللاحق”.
أضاف “أدى ذلك إلى نمو ضعيف للغاية في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي وانتعاش بطيء في الاقتصاد الحقيقي”، وربما يكون التقشف قد جعل هذا الأمر أسوأ، عبر خفض الإنفاق على البنية التحتية والبحث والتطوير، كما جاء التنظيم المالي المصمم لتجنب أزمة أخرى على حساب تعاف أبطأ، أعقبته تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ يتوقع بنك إنجلترا أن يقلل “بريكست” من إنتاجية المملكة المتحدة بنحو 3.25 في المئة على المدى الطويل، وفي وقت سابق من هذا العام، أشار البنك إلى أن حجم التجارة مع الاتحاد الأوروبي كان أسوأ مما كان متوقعاً.
ويعني كل من ركود كوفيد وأعباء الديون أنه، وفقاً لمكتب مسؤولية الميزانية، أن الأجور المتاحة للإنفاق المعدلة بحسب التضخم لن تعود إلى مستويات عام 2021 حتى عام 2027.
ولكن حتى من دون هذه المصائب، كانت المملكة المتحدة في حالة ضعف، إذ كان الاستثمار الرأسمالي أقل مقارنة بالنظراء الدوليين منذ عقود، فيما يجادل كثيرون بأن هذا يعني أن البلاد في حاجة إلى استراتيجية صناعية جديدة.
أيضاً ارتفعت أسعار الطاقة، وهي حصة ضخمة من تكاليف عديد من الشركات المصنعة، بشكل كبير، إذ تضاعف السعر الصناعي للكهرباء ثلاث مرات بين عامي 2004 و2021، وحتى قبل الحرب في أوكرانيا، وكانت الشركات البريطانية تدفع ضعف ما تدفعه مقابل الكهرباء في الولايات المتحدة، ونظراً لتراجع الصناعات التاريخية منذ السبعينيات، لم تفعل بريطانيا شيئاً لتسهيل وصول الأشخاص إلى الصناعات التي تنمو بسرعة أكبر، وبخاصة في الجامعات الرائدة.
وبالنظر للقطاع العقاري، أصبحت أسعار المنازل في لندن اليوم أعلى بسبع مرات مما كانت عليه في عام 1992، في حين أن الأجور البريطانية أعلى بثلاث مرات فقط.
ووفقاً لمركز أبحاث مركز المدن، تم بناء أربعة ملايين منزل وهو رقم قليل جداً، مقارنة بعدد سكان البلاد، وبقية أوروبا، في وقت تتزايد هذه الفجوة كل عام.
المقارنة مع الجارة فرنسا
ومن المفيد مقارنة وضع بريطانيا مع جارتها فرنسا وهي دولة ذات ضرائب وبطالة عالية، واستراحات غداء صاخبة لمدة ساعتين، وتقاعد مبكر، لكن فرنسا لديها سبعة ملايين منزل أكثر من بريطانيا، وتبني نحو 400 ألف منزل في العام مقابل 250 ألف منزل، لذلك فإن السكن أرخص والمنازل أكبر.
أيضاً تبلغ كلفة رعاية الأطفال في فرنسا نصف نظيرتها في بريطانيا، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها تتطلب عدداً أقل من الموظفين لكل طفل، كما حافظت استثمارات فرنسا في مجال الطاقة النووية في ثمانينيات القرن الماضي على أسعار الطاقة منخفضة نسبياً في السنوات الأخيرة، وهي تصدر جزءاً بسيطاً من الكربون الذي ينتج من توليد الكهرباء لدينا، كما يمكن لفرنسا تقريباً أن تتمتع بثقافة دولة الرفاهية والتقاعد المبكر لمواطنيها.
الطاقة الكامنة الاقتصادية
اليوم يكمن القلق الحقيقي في بريطانيا، في الحصول على الإسكان وإمدادات الطاقة بشكل صحيح، فلا تزال البلاد في حالة ركود، ويبدو أن الأمور سيئة للغاية لدرجة أن السياسيين المتقاعدين يدركون أن العمل الجاد ضروري.
ويقول كلا الحزبين الرئيسين (المحافظين والعمال) إنهما يريدان بناء مزيد من المنازل، حتى لو كانا غامضين في شأن كيفية ذلك، كما سلط الجدل الأخير حول صافي الصفر وتكلفة المعيشة الضوء على خفض الانبعاثات من طريق تقنين استخدام الطاقة والذي من المرجح أن يكون مكلفاً ومؤلماً، في حين يمكن لبريطانيا بدلاً من ذلك أن تختار الطاقة النظيفة الوفيرة والرخيصة من خلال تسهيل بناء مصادر الطاقة المتجددة الجديدة والطاقة النووية.
وعلى الجانب الإيجابي، تمتلك المملكة المتحدة قدراً هائلاً من “الطاقة الكامنة” الاقتصادية التي يجب أن تجعل البريطانيين متفائلين بالمستقبل، بما في ذلك التكنولوجيا الحيوية، والتكنولوجيا المالية، والذكاء الاصطناعي، وبعض الصناعات المتقدمة، إضافة إلى الأفلام والموسيقى والأدب، فيما لا تزال هذه الصناعات موضع إعجاب في جميع أنحاء العالم.
ويقول مؤلف كتاب الركود العظيم The Great Stagnation، تايلر كوين، إن جنوب إنجلترا هو “أحد الأماكن القليلة التي يمكن للمرء حقاً ولادة وتنفيذ فكرة جديدة”، مشيراً إلى لقاح “كوفيد-19” (أسترازينيكا) وشركة الذكاء الاصطناعي البريطانية “دييب مايند” كأمثلة حديثة، بالتالي يمكن لفتح مزيد من المدن البريطانية أن تحقق النجاح لكثيرين وتحقق الازدهار، كما سيتيح التوجه لبناء الطاقة النظيفة والطرق والسكك الحديدية للبلاد معاودة النمو.
تقول الصحيفة “بريطانيا ليست وحدها من تواجه اليوم مشكلات كثيرة، فهناك دول مثل بولندا والولايات المتحدة وسلوفينيا وكوريا الجنوبية لديها مشكلات هي الأخرى مشكلاتها، ولكن بريطانيا تحتاج التركيز على أكبر المشكلات التي تواجهها، والتعامل بجدية مع حلها”.