حقيقتان لا مفرّ منها في قراءة الأزمة الليبية
كتب الحبيب الأسود, في “العرب” :
الصراع على الغنيمة لا يزال قائمًا منذ الإطاحة بنظام القذافي ويزداد حدة بمرور الوقت لاعتبارات عدة منها أن قوى عدة رسخت أقدامها على الأرض ولم تعد مستعدة للتخلي عن ومكاسبها.
هناك حقيقتان مهمتان تتعلقان بالوضع في ليبيا لا يمكن القفز عليهما ولا تجاوزهما، وإنما لا بد من الوقوف عند كلّ منهما، بهدف قراءة الواقع من خلال ملامحه الأساسية والتعامل مع تفاصيله بعيدًا عن الشعارات المرفوعة، والخطب السياسية المخصصة للاستهلاك الداخلي والخارجي، والتي لا تزال تتردد وتتكرر بنفس المفردات والمصطلحات منذ أكثر من عشر سنوات.
الحقيقة الأولى، أن الصراع على تقاسم الغنيمة لا يزال قائمًا منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، ويزداد حدة بمرور الوقت، لاعتبارات عدة، منها أن قوى عدة رسخت أقدامها على الأرض، ولم تعد مستعدة للتخلي عن مصالحها ومكاسبها، وهي تنطلق من نزعة المنتصر الذي يرفض تقاسم النصر مع الآخرين، ويرى أن الاعتراف بهم قد يكون تسليمًا لهم بحق المشاركة في الغنيمة.
نجح الجنرال خليفة حفتر في تكريس سلطته المطلقة بمناطق نفوذ المؤسسة العسكرية التي يتزعمها، وقد تحول إلى قائد وزعيم ورمز للمرحلة، ومن حوله أبناؤه الممسكون بمقاليد الحكم في مختلف القطاعات، والمقرّبون منه والمحسوبون عليه انطلاقًا من خلفيات أسرية أو قبلية أو مناطقية أو سياسية أو مالية واقتصادية، وأما المجاهرون بمعارضته أو بموالاة منافسيه، فهم موعودون بمصائر غامضة كما كان يحدث في النظام السابق، وخاصة خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حتى أن هناك من يرى أن الجنرال يحاول أن ينتقم من التاريخ ويتشفى من سنوات الطموح التي حاول القذافي وأده فيها عندما دفع به إلى حرب بلا أفق، وتركه فيها للمصير المحتوم من دون مدد أو سند، أمام جيش تشاد المدعوم آنذاك من باريس وواشنطن.
بين الانقسام الداخلي والصراع الإقليمي والدولي حول تقاسم النفوذ، تستمر ليبيا في مواجهة أزمتها إلى حين حصول انقلاب في خارطة التوازنات يمكن أن يستغله الشعب في إعادة تشكيل أولويات وطنه
واليوم، سيكون من العبث الحديث عن أيّ حل سياسي قد يتجاهل تمسك الجنرال ليس فقط بسلطته وإنما بزعامته وقيادته للمرحلة وبعقيدته السياسية التي يرى أن أبناءه هم خير من يدافع عنها، وفوق ذلك، فهو يرى أنه يمكن أن يحمل قلب “الأخ القائد”، ولكن دون أخطاء قد تنتهي به إلى مصير القذافي، ولذلك نجده يعقد تحالفات إقليمية ودولية يمكن الوثوق بها، ويتقن لعبة السير على حبل التوازنات، منطلقًا من الخطر الحقيقي الذي يمكن أن يتهدد طموحاته السياسية هو أن يضع بيضه في سلة الغرب، وقد تعلّم منذ البداية أن الولايات المتحدة، حتى وإن كان يحمل جنسيتها، إلا أنها لن ترحمه عندما تجد أن مصلحتها تقتضي العصف به وبمشروعه، عكس روسيا التي تعرف كيف تحافظ على أصدقائها وتخوض من أجلهم الحروب عندما يصبح ذلك ضروريًا، والتي تعتبر اليوم الحليف الدولي الأبرز للجنرال حفتر.
وكما هو الشأن بالنسبة إلى شرق البلاد وجنوبها، فإن هناك قوى سياسية وأخرى ميدانية مسلحة بالمنطقة الغربية تتحرك من منطلق أنها الوحيدة التي تمتلك شرعية تقرير مصير ليبيا، وهي التي تحدد موعد الانتخابات وشروط الترشح لها والنتائج التي يجب أن تسفر عنها. ويبدو رئيس الحكومة المنتهية ولايته عبدالحميد الدبيبة منخرطًا بقوة في هذا التيار ليجد الغطاء الذي يتدثر به في معركة الصراع من أجل البقاء، وهو يتخذ من بنادق بعض الميليشيات ومن جلباب مفتي طرابلس الصادق الغرياني أدوات للتمسك بمقاليد السلطة التي يرى أنه عصفور نادر في المشهد الليبي وأنها من حقه لسنوات قادمة، وأن من قد يأتي بعده لن يكون أفضل منه، ولن يتميز عنه بشيء، بل أن لديه قناعة بأنه قد يكون الشخصية الثالثة في تاريخ الدول الليبية المؤهلة للبقاء على كرسي الحكم بعد إدريس السنوسي في عهده الملكي ومعمر القذافي في زمنه الجمهوري ثم الجماهيري.
وكما هو معلوم، فهناك تيار كامل في مدينة مصراتة يرى أن حكم ليبيا من حقه وحق مدينته، انطلاقًا من أنها المدينة المنتصرة بعد الحرب الأهلية لعام 2011، وأنها العاصمة الاقتصادية للبلاد، وأن أبرز عناصر النخبة الليبية تتحدر منها. فيما هناك ميليشيات في مدينة الزاوية يقودها أمراء حرب يعتبرون أن لا أحد بإمكانه إجبارهم على الاندماج في مؤسسات الدولة أو الاعتراف بقوانينها، والأمر ذاته بالنسبة إلى مناطق الأمازيغ التي تعتبر أن مرحلة الفوضى ما بعد الإطاحة بنظام القذافي منحتها الفرصة النادرة لتحقيق الاعتراف بحقوقها السياسية والاجتماعية والثقافية وبحضورها الميداني على الحدود كما حصل في معبر رأس جدير المشترك مع تونس الذي سيطرت عليه ورفعت فوقه علمها القومي.
والحقيقة الثانية، التي لم يعد هناك مجال لإنكارها، هي أن ليبيا تحولت إلى ساحة صراع بين القوى الإقليمية والدولية الكبرى التي تجد، للأسف، دعمًا ومساعدة من الفرقاء الداخليين. وقد تحدثت المبعوثة الأممية السابقة ستيفاني ويليامز كيف أن النخبة الحاكمة في البلد المنكوب منذ 13 عامًا “تميل نحو مقايضة سيادة بلادها بثمن بخس”، وكيف أن خلفاء القذافي السياسيين والعسكريين ممن وصفتهم بـ”حديثي العهد في الساحة العالمية”، حاولوا الموازنة “بشكل مخجل” بين الشأن الداخلي والشأن الدولي، مستمتعين بالسياحة السياسية وساعين في عواصم الدول الأجنبية وراء الشرعية التي فشلوا في الحصول عليها من مواطنيهم.
كما هناك أطماع للروس والأميركان، هناك أطماع للإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والألمان والأتراك وغيرهم ممن يعتبرون أن ليبيا بموقعها ومساحتها وثرواتها المكتشفة وغير المكتشفة، تستحق خوض الصراع من أجل الحصول على نصيب من النفوذ
وما قالته ويليامز يكاد يتردد على ألسنة جميع المراقبين تقريبًا، فكل فريق يستقوي على الفريق المقابل بعلاقاته الخارجية، وبالصفقات التي قد يعقدها من تحت الطاولة مع هذه العاصمة أو تلك. وليبيا اليوم تبدو منقسمة بين فريق متحالف مع الروس وآخر تابع للأميركان، وثالث يركض بين باريس وروما. وكذلك فإن البلد الذي كان محافظًا بقوة على سيادته حتى العام 2011، تحول إلى فريسة يتقاذفها اللاعبون الدوليون. وكما هناك قوات “فاغنر” الروسية التي تحولت إلى “الفيلق الأفريقي” في مناطق نفوذ حفتر، هناك عناصر “أمنيتيوم” الأميركية في المنطقة الغربية مع مسلحين من “أفريكوم” قد يكون وجودهم تمهيدًا لحضور أقوى خلال الفترة القادمة، لاسيما أن طيران التجسس الأميركي لم يتوقف خلال الأسابيع الماضية عن التحليق أمام السواحل الليبية لمراقبة ما يسميه البعض بالتمدد الروسي. في الأثناء، تواصل تركيا حضورها العسكري القوي في طرابلس ومصراتة والخمس وقاعدة “الوطية” المتاخمة للحدود مع تونس والتي تعتبر أكبر قاعدة جوية في المنطقة الغربية، وتنظر إليها الولايات المتحدة باهتمام كبير وهي التي ساهمت في إنشائها مع فرنسا وبريطانيا في العام 1942 عقب الوصاية الدولية الثلاثية إبان الاستعمار الإيطالي.
وكما هناك أطماع للروس والأميركان، هناك أطماع للإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والألمان والأتراك وغيرهم ممن يعتبرون أن ليبيا بموقعها ومساحتها وثرواتها المكتشفة وغير المكتشفة، تستحق خوض الصراع من أجل الحصول على نصيب من النفوذ داخلها، لاسيما أن هناك أكثر من “حصان طروادة” جاهز للركوب والاستعمال.
وبين الانقسام الداخلي حول مقاليد الحكم والصراع الإقليمي والدولي حول تقاسم النفوذ في جغرافيتها الشاسعة، تستمر ليبيا في مواجهة أزمتها إلى حين حصول انقلاب في خارطة التوازنات يمكن أن يستغله الشعب في إعادة تشكيل أولويات وطنه بعيدًا عن النخب الحاكمة الحالية، ولو عبر التحالف بين القوى الوطنية المدنية والمسلحة وبين القادمين من الصراعات السابقة بروح التوافق الضروري ضمن كتلة البناء الوطني القادرة على تأجيل كل خلافاتها إلى ما بعد الانتصار لمنطق الدولة والقانون.