حداثة دبلوماسية ترمب التعاقدية وإيجابياتها وتداعياتها

كتب نبيل فهمي في صحيفة إندبندنت عربية.
منذ الاتفاقات القديمة والمعاهدات المبكرة إلى فن إدارة الدولة المعقد في العصر الحديث، تأثرت الدبلوماسية بالقوة والمصالح والمساومة. ومن تقاليدها الرئيسة “الواقعية” حيث تحرك الدول في المقام الأول أمنها ومصالحها الوطنية، وليس بالضرورة لأهداف أخلاقية أو مثالية.
وفي هذا السياق، فإن ما يطلق عليه بعض “دبلوماسية الواقعية” ليس اختراعاً جديداً، بل هو متجذر بعمق في التاريخ. وينصب التركيز فيها على المكاسب الملموسة، مثل الأراضي والموارد والضمانات الأمنية والصفقات الاقتصادية.
وينظر إلى نهج الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنه نسخة مباشرة وعدوانية وعلنية من هذا النموذج التبادلي. ويشيد المؤيدون أن مثل هذه الخطوات عملية وموجهة نحو النتائج، ويخشى آخرون من أن يؤدي هذا إلى دبلوماسية تتجاهل عواقب طويلة الأمد، والديناميكيات الإقليمية، والمعضلات الأخلاقية، والاستقرار.
خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، جرى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس”. وسرعان ما أشاد كثر في أميركا بالاختراق الدبلوماسي الناتج، واعتبروه نتيجة ملموسة للدبلوماسية التي توسطت فيها الولايات المتحدة مع آخرين. وشارك في رئاسة القمة التي عقدت في شرم الشيخ كل من ترمب والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وجمعت عدداً من الدول. ومما يؤكد الطبيعة العملية/الواقعية للاتفاق، بدا أن الهدف موجه نحو وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن، وتقديم الإغاثة الإنسانية الفورية.
وخلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أفادت التقارير بأن الولايات المتحدة بقيادة ترمب، طرحت خطة سلام من 28 نقطة للحرب في أوكرانيا، وتضمنت المسودة بنوداً مثيرة للجدل للغاية، مثل الاعتراف بالسيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم ولوغانسك ودونيتسك، وتجميد بعض مناطق المواجهة الأخرى، والحد من حجم الجيش الأوكراني ومنع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.
عارض الحلفاء الأوروبيون بشدة عناصر رئيسة من الخطة، لا سيما المقترحات التي من شأنها تقويض سيادة أوكرانيا، أو تركها عرضة لعدوان روسي متجدد، أو إبعادها من حلف الناتو.
وتشير التقارير إلى أن بعض المقترحات تضمنت شروطاً اقتصادية، مثل الوصول إلى الموارد المعدنية في أوكرانيا، وحقوق البنية الأساس، وحقوق تراخيص التصدير مقابل الدعم الأميركي.
هذا النوع من المفاوضات – تنازلات إقليمية وعسكرية واسعة النطاق مقابل السلام وشروط اقتصادية – مثال نموذجي على الدبلوماسية الواقعية التبادلية، مما يعده كثر جديداً، نظراً إلى جرأة الشروط والميل الملحوظ نحو خصم قوي. روسيا، وأوروبا، وتهميش الحلفاء، والضغط على أوكرانيا لقبول صفقة، يرى النقاد أنها دبلوماسية قسرية تبادلية متخفية في قناع صنع السلام.
ويحذر المحللون من أن هذه الدبلوماسية التبادلية، التي تحمل شعار “أميركا أولاً”، هزت تحالفات راسخة، وأفادت التقارير بأن أوروبا شعرت بتهميش متزايد. وأعرب القادة الأوروبيون عن قلقهم من أن المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة حول أوكرانيا قد تستمر من دون مشاركة أو تشاور أوروبي كافٍ.
يجادل النقاد بأن هذا الأسلوب يقوض المعايير الدبلوماسية الجماعية التي عززت نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي معايير مبنية على التعددية والقيم المشتركة والتعاون المؤسسي، والالتزام بالسيادة وحقوق الإنسان.
وبما أن الدبلوماسية المعاملاتية موثقة تاريخياً، فلماذا يتعامل عدد من المعلقين مع أسلوب ترمب كما لو كان جديداً أو استثنائياً؟ ما يبدو جديداً هو نسخة أكثر انفرادية، صفرية المحصلة، من أعلى إلى أسفل، ربما مدفوعة بمكاسب قصيرة الأجل وسلطة شخصية، بدلاً من الاستمرارية المؤسسية والتشارك.
وغالباً ما تدار الدبلوماسية التقليدية – حتى الدبلوماسية الواقعية – خلف الأبواب المغلقة، في حين أن دبلوماسية القنوات الخلفية. في عهد ترمب، غالباً ما تكون الصفقات والمقترحات، وحتى مواقف التفاوض، علنية ومعلنة بالكامل. هذا الوضوح يجعل الطبيعة التبادلية أكثر وضوحاً – وأحياناً صادمة للجماهير المعتادة على دبلوماسية أكثر غموضاً.
تقترح مسودة خطة السلام الأوكرانية، التي تتضمن تنازلات إقليمية واستراتيجية كبيرة، الاستفادة من حقوق المعادن والبنية التحتية في أوكرانيا، والخطة الجذرية “للسيطرة” على غزة وإعادة تطويرها كجزء من مخطط تقوده الولايات المتحدة – هذه ليست صفقات دبلوماسية تدريجية. إنها كبيرة وشاملة، وتثير أسئلة جوهرية حول السيادة والعدالة واختلالات موازين القوى.
أصبحت الدبلوماسية تتمحور بصورة متزايدة حول شخصية قادة العالم، وهو اتجاه في الدبلوماسية الحديثة، ولكن في ظل ترمب، أصبح هذا الأمر مبالغاً فيه. غالباً ما ترتبط الصفقات ليس بالمؤسسات أو التعددية التي تقودها المؤسسات، ولكن بترمب شخصياً. وهذا يزيد من عدم الاستقرار، إذا تغير القائد فقد تتغير الصفقات، وقد تختفي الثقة التي تدعمها ويلاحظ المراقبون أن الدبلوماسية الحديثة تمر بمرحلة تحول بسبب التغيرات في هياكل القوة والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والجهات الفاعلة من غير الدول – لكن نموذج ترمب يؤكد النفوذ الشخصي.
حاولت دبلوماسية ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى حد كبير بناء نظام دولي قائم على القواعد، مع مؤسسات جماعية، واحترام السيادة وحقوق الإنسان والقانون الدولي والتحالفات (مثل الناتو)، إلخ. ويجادل النقاد بأن نهج ترمب هو إعادة تركيز الدبلوماسية حول المساومة الخام، والمنطق المعاملاتي، وأحياناً القوة غير المتكافئة مما قد يؤدي إلى تآكل المعايير والثقة التي تدعم الدبلوماسية الجماعية.
وهكذا، في حين أن المنطق الكامن وراء الدبلوماسية التبادلية ليس جديداً، إلا أن شكلها ووضوحها ونطاقها وتداعياتها المعيارية تبدو لكثر انحرافاً كبيراً عن الممارسات الدبلوماسية الحديثة. وهذا ما يبدو جديداً لكثير من المراقبين.
قد يحقق تبني دبلوماسية أكثر حدة وتفاعلية، كما هي الحال في عهد ترمب، مكاسب قصيرة الأجل، ولكنه قد يحمل أيضاً أخطاراً جسيمة طويلة الأجل.
يمكن للدبلوماسية التبادلية – وبخاصة عندما تقودها شخصية قوية – أن تجبر على إبرام صفقات عندما يستمر الجمود. ويستشهد بوقف إطلاق النار في غزة من قبل كثر على أنه نجاح للدبلوماسية السريعة والقوية.
ويلاحظ أن الواقعية السياسية تدفع أحياناً إلى ربط المساعدات أو الدعم بعوائد ملموسة، مثل الصفقات الاقتصادية والتوافق الاستراتيجي، وقد تضمن الدول القوية مزايا طويلة الأجل حيوية لمصالحها الاستراتيجية أو الاقتصادية – الموارد، والنفوذ، والوصول.
وفي السياقات الجيوسياسية الفوضوية سريعة التغير (الحروب والتحالفات المتغيرة، والمنافسة على الموارد)، يمكن للدبلوماسية المعاملاتية أن تكون أكثر قدرة على التكيف من الدبلوماسية المؤسسية البطيئة الحركة.
وفي المقابل، قد يشعر الحلفاء بالتهميش أو الاستغلال، مما يؤدي إلى إضعاف التحالفات والتشرذم أو المعارضة. على سبيل المثال، أبدى القادة الأوروبيون مقاومة لبعض بنود خطة السلام الأميركية المقترحة لأوكرانيا.
وقد يترتب عليها زعزعة الاستقرار والمظالم طويلة الأمد، قد تثير الصفقات التي تركز على القوة على حساب العدالة والحقوق – التنازلات الإقليمية، والسيطرة على الموارد، والقيود العسكرية – الاستياء، وتخلق عدم المساواة، وتزعزع استقرار المناطق. تثير الشروط الإقليمية والعسكرية المقترحة في خطة أوكرانيا مخاوف جدية في شأن السيادة والأمن المستقبلي.
هذا وإذا تجاوزت القوى الكبرى بصورة متزايدة المؤسسات والمعايير متعددة الأطراف، واعتمدت بدلاً من ذلك على الصفقات الثنائية والدبلوماسية الشخصية، فقد تفقد المؤسسات العالمية – النظام الدولي القائم على القواعد – شرعيتها وفعاليتها. وهذا قد يصعب التعاون العالمي، لا سيما بالنسبة إلى الدول الأصغر والأضعف.
وتعد الصفقات المرتبطة بشخصيات فردية، أو دورات سياسية، أو مصالح قصيرة الأجل، هشة. قد يؤدي ظهور قائد جديد، أو تحول في السياسة الداخلية، أو سياق عالمي مختلف، إلى قلب الاتفاقات رأساً على عقب بسرعة، مما يقوض الاستقرار على المدى الطويل.
وقد تقوض الصفقات الدبلوماسية التي تركز على القوة والمصالح قيماً مثل حقوق الإنسان، والإنصاف وتقرير المصير والسيادة. مع مرور الوقت، قد يلحق هذا الضرر بالمكانة الأخلاقية للدولة وقوتها الناعمة، مما يصعب التعاون في المستقبل.
وإذا عادت الدول القوية بصورة متزايدة إلى الدبلوماسية العدوانية القائمة على المصالح، فقد يتآكل عدد من سمات نظام ما بعد الحرب، الثقة بين الحلفاء وشرعية المؤسسات والمعايير المشتركة، والالتزامات بحقوق الإنسان أو السلامة الإقليمية. مع مرور الوقت، قد يؤدي ذلك إلى عالم أكثر اضطراباً وانقساماً، إذ تصبح الدبلوماسية مساومات معاملاتية، وتتغير التحالفات بسرعة، وتتغلب القوة على الحق.
هذا لا يعني اختفاء المؤسسات، ولكن قد تهمش أو تضعف أو تستخدم فقط عند الحاجة. قد تهيمن أشكالاً جديدة وأكثر صرامة من الدبلوماسية، صفقات قائمة على النفوذ والموارد وتفاوت القوة والميزة الفورية. قد يفضل عالم كهذا الدول الأقوى، ويقوض الدول الأصغر، ويقلص مساحة التعاون متعدد الأطراف في شأن التحديات العالمية (المناخ والهجرة والأوبئة والحد من الأسلحة النووية، إلخ).
خلال الوقت نفسه، في عالم تتناقص فيه المعايير المتفق عليها يزداد عدم القدرة على التنبؤ. يمكن أن يفاقم ذلك الصراعات، ويقوض الاستقرار، ويصعب إعادة بناء الثقة الدبلوماسية. قد تسفر الصفقات التبادلية ككل عن فوائد قصيرة الأجل، ولكنها قد ترسخ أيضاً الظلم وتغذي الاستياء، وتولد دورات من المساومة والإكراه والصراع.
في جوهره، منطق الدبلوماسية التبادلية ليس جديداً. ولكن ما يبدو جديداً في عهد ترمب هو نطاق هذه الدبلوماسية ووضوحها وجرأتها وشخصنتها، المساومات العامة والصفقات ذات الأخطار العالية والمفاوضات الإقليمية والمتعلقة بالموارد، والاستعداد لإعادة تشكيل التحالفات أو كسر المعايير من أجل تحقيق مكاسب متصورة.
إن ترسخ هذا التوجه – وما إذا كان سيعزز النظام العالمي أم سيزعزعه – يعتمد إلى حد كبير على كيفية استجابة القادة والدول والمؤسسات العالمية في المستقبل. إذا ضعفت المعايير والمؤسسات متعددة الأطراف، فقد نشهد عالماً تصبح فيه الدبلوماسية أشبه بسوق للقوة والموارد والصفقات، بدلاً من أن تكون مساحة للمعايير الجماعية والاستقرار والتعاون.




