تصعيد السودان ضد الإمارات: هروب من الفشل الداخلي أم صناعة عدو وهمي
كتب د. عبدالمنعم همت في صحيفة العرب.
إلى أي مدى يمكن لحكومة بورتسودان الاستمرار في هذا النهج التصعيدي دون أن تدفع ثمنا باهظا على المستوى الدولي.
استهداف مقر بعثة الإمارات في الخرطوم، كما ورد في بيان الخارجية الإماراتية، لا يمكن اعتباره مجرد حادث عرضي في سياق الحرب السودانية المعقدة، بل هو جزء من سلسلة أحداث وتصرفات تشير إلى نية مبيّتة من قبل حكومة بورتسودان لتصعيد الموقف مع الإمارات تحديداً. فالأضرار الجسيمة التي لحقت بالمبنى تعد بمثابة رسالة مباشرة لا تخطئها العين. فالحكومة التي تمثل الإسلاميين المتحالفين مع الفصيل العسكري في بورتسودان تسعى على ما يبدو لاستفزاز الإمارات وتحريضها على اتخاذ إجراءات تصعيدية قد تصل إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، وهو ما قد يزيد من تعقيد المشهد السوداني ويضع علاقاته الخارجية على المحك.
ما يدعو إلى التفكير بعمق هو السياق الذي يأتي فيه هذا التصعيد، إذ لطالما كانت العلاقة بين الإسلاميين والإمارات متوترة، خاصة بعد الدور البارز الذي لعبته الإمارات في تقويض نفوذ الإخوان المسلمين في المنطقة، وقطع طرق تمويلهم. فالإمارات كانت ولا تزال قوة إقليمية تسعى إلى مكافحة التطرف، وقد نجحت في تحجيم قدرات الإخوان وتفكيك شبكاتهم، وهذا ما جعلها هدفاً دائماً للهجوم من قبل الإسلاميين في السودان وخارجه. فحكومة بورتسودان التي تحمل في طياتها مشروع الإخوان المسلمين لم تستطع تجاوز هذه الخسارة، وتستخدم كل الأدوات المتاحة لديها لتوجيه الضربات للإمارات، حتى لو كان ذلك من خلال حرب إعلامية وتصريحات استفزازية.
الفريق ياسر العطا، أحد القادة البارزين في النظام السوداني، لم يخفِ استغرابه من استمرار وجود السفير الإماراتي في السودان في ظل هذه الأجواء المتوترة. لكن المفارقة هنا تكمن في أن الحكومة السودانية، رغم هذه الانتقادات، لم تتخذ أيّ خطوة فعلية لطرد السفير أو التصعيد الرسمي المباشر ضده. فهذا التناقض يعكس حالة التخبط داخل حكومة بورتسودان، التي تجد نفسها بين مطرقة حاجتها إلى علاقات إقليمية ودولية، وسندان الضغوط الداخلية التي يمارسها الإسلاميون الذين يرون في الإمارات خصماً سياسياً يجب إبعاده.
والهجوم الإعلامي على السفير السوداني في الإمارات، واتهامه بمحاولة تحسين العلاقات بين البلدين، يعكس انحرافاً واضحاً في فهم دور السفير في أيّ دولة. فالمعروف أن من صميم مهام أيّ دبلوماسي هو توطيد العلاقات وتعزيز التعاون بين بلده والدولة المضيفة. ولكن، يبدو أن حكومة بورتسودان تسعى لتحريف هذه المهام إلى اتهامات بالتآمر والخيانة، وهي أساليب مألوفة لدى الإسلاميين الذين اعتادوا على الشك في كل من يخالفهم الرأي أو يسعى إلى بناء علاقات خارج إطار توجهاتهم الأيديولوجية.
لا يمكن النظر إلى هذه التصرفات بمعزل عن العجز المستمر الذي تعانيه حكومة بورتسودان في إدارة شؤون الدولة. فمع مرور الوقت، أصبح واضحاً أن هذا الفصيل السياسي يفتقر إلى أيّ رؤية مستقبلية حقيقية، ويعتمد على خلق أعداء وهميين لتبرير إخفاقاته. الإمارات، لكونها دولة لعبت دوراً مهماً في تحجيم الإخوان، تُستخدم اليوم ككبش فداء لتحويل الأنظار عن الفشل الداخلي المتزايد. وفي ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية يحتاج النظام إلى عدو خارجي يمكن تحميله مسؤولية ما آلت إليه البلاد.
ما يزيد الأمور تعقيداً هو الانتصارات “الوهمية” التي تروّج لها حكومة بورتسودان. فالحديث عن “تحرير السوق العربي” يعكس انحداراً في مستوى التفكير السياسي والعسكري لهذه الحكومة. فبدلاً من التركيز على تحقيق استقرار حقيقي أو التوصل إلى حلول سياسية للصراع المستمر، نجدها تروّج لأعمال رمزية غير ذات قيمة، محاولة إيهام الشعب السوداني بأنها تحقق نجاحات ملموسة. واستهداف مقر بعثة الإمارات في هذا السياق يأتي كجزء من هذه الحملة الدعائية، حيث تسعى الحكومة إلى استغلال الحماس الشعبي لدى بعض الفئات لتحويل حادثة عدائية إلى “إنجاز” يمكن تسويقه للجماهير.
ولكن، رغم هذه المحاولات البائسة، يبقى السؤال الأهم: إلى أيّ مدى يمكن لحكومة بورتسودان الاستمرار في هذا النهج التصعيدي دون أن تدفع ثمناً باهظاً على المستوى الدولي؟ الإمارات، التي تتمتع بعلاقات دولية قوية ومواقف ثابتة في دعم استقرار الدول العربية، ليست بالخصم الذي يمكن الاستهانة به. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لحكومة بورتسودان أن تستمر في تحميل الآخرين مسؤولية فشلها في إدارة الدولة إلى الأبد. إن هذا النهج لا يعدو كونه محاولة للهروب من الواقع، واقع يتطلب إصلاحات جذرية، وحواراً حقيقياً بين الأطراف السودانية المختلفة، بعيداً عن لغة التصعيد والحروب الوهمية.
قد يكون هذا التصعيد محاولة من حكومة بورتسودان لتأمين موقفها الداخلي المترنح، ولكن في ظل التدهور المستمر في الأوضاع، تبدو هذه المحاولات أشبه بمن يطفئ النار بالبنزين، إذ أن التصعيد ضد الإمارات لن يحل الأزمات الداخلية، بل قد يزيد من عزلة السودان على الساحة الدولية. وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة لتوجيه الأنظار بعيداً عن الفشل الداخلي، فإن الحقيقة تبقى أن السودان في حاجة ماسة إلى حلول سياسية واقتصادية تتجاوز لغة الحرب والصراع، وإن خلق عدو خارجي لن يكون حلاً لأزماته المتراكمة.