“بلومبيرغ”: أوروبا تخفض أسعار الفائدة مرتين في غضون أشهر

يستعد البنك المركزي الأوروبي لتنفيذ خفضين إضافيين في أسعار الفائدة خلال الأشهر المقبلة، وسط تحذيرات من تداعيات سلبية محتملة إذا طالت المدة الفاصلة بين الخطوتين، بحسب ما نقلته وكالة “بلومبيرغ” عن استطلاع شمل محللين اقتصاديين. ويُتوقّع أن يُبادر المركزي الأوروبي إلى تقليص الفائدة بواقع 25 نقطة أساس خلال اجتماعيه في يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول، ليصل سعر الفائدة على الودائع إلى 1.75%، وهو المستوى الذي يُرجّح أن يظل ثابتًا حتى نهاية 2026. وتُشير التوقعات إلى أن هذه الخطوات ستتزامن مع تقييم لتأثير التحولات في السياسة التجارية الأميركية، خاصةً مع تصاعد التوترات المرتبطة بإجراءات الرئيس الأميركي دونالد ترامب. لكن خبراء الاقتصاد حذّروا، عبر “بلومبيرغ”، من أن فترة توقف طويلة بين هذين الخفضين قد تُفهم باعتبارها إشارة إلى انتهاء دورة التيسير النقدي، وهو ما قد يُفقد الأسواق ثقتها بخطط البنك المستقبلية. وتباينت المواقف داخل المجلس الحاكم للبنك، إذ ناقش كل من العضوين بيير ونش ويانيس ستورناراس— اللذين يُمثّلان التيارين المتشدد والمتساهل في السياسات النقدية — فكرة التريّث مؤقتًا بهدف امتصاص صدمة الإجراءات الجمركية الأميركية، دون أن يكون ذلك بمثابة إعلان رسمي لنهاية خفض الفائدة.
إسرائيل تتخوف من الحظر التجاري الأوروبي… هذه هي الخسائر المتوقعةمن جهته، يرى كبير الخبراء الاقتصاديين في “سويدبنك” نيريجوس ماسيوليس أن الوتيرة الحالية قد تتيح للبنك تقييم تداعيات المستجدات التجارية بحذر قبل الإقدام على خطوات إضافية في الخريف. ورغم حرص البنك المركزي الأوروبي على الحفاظ على رسائل تواصل واضحة مع الأسواق، إلا أن الاستطلاع كشف عن قلق متزايد من أن أي تأخير في خفض الفائدة قد يعرّض رئيسة البنك كريستين لاغارد لمزيد من الضغوط، لا سيما أن نحو 30% من المحللين يرون أن فترة توقف تمتد لاجتماعين ستكون طويلة جدًا.
كل السيناريوهات مطروحة بشأن أسعار الفائدة الأوروبية
ووفقًا لتقرير نشرته “بلومبيرغ”، فقد شدد صانعو السياسة النقدية خلال اجتماعهم الأخير على أهمية تجنب اتخاذ خطوات مفاجئة قد تُربك الأسواق، في ظل بيئة اقتصادية غير مستقرة بطبيعتها. في هذا السياق، أكدت أولريكه كاستينز، الخبيرة في “دي دبليو إس إنترناشونال”، أن البنك يسعى إلى إبقاء كل السيناريوهات مطروحة، لا سيما في ظل الغموض الذي يكتنف التوقعات المتوسطة الأجل للتضخم، رغم تراجع المؤشرات على المدى القصير.
أما على صعيد العوامل المؤثرة، فقد أشار محللون إلى أن ارتفاع قيمة اليورو وتراجع أسعار النفط، إلى جانب تباطؤ النمو، قد يُسرّعان في تحقيق هدف التضخم، لكنهم حذروا في الوقت نفسه من مخاطر محتملة، مثل تعطل سلاسل الإمداد والتدابير الجمركية المضادة التي قد تتخذها بروكسل. كما أظهرت بيانات حديثة ارتفاع توقعات المستهلكين في منطقة اليورو بشأن التضخم خلال الأشهر الـ12 المقبلة، ما يُضيف مزيدًا من التعقيد لصانعي السياسات النقدية.
ومن المنتظر أن يكشف البنك المركزي الأوروبي خلال الأسبوع المقبل عن توقعات اقتصادية محدثة، من المرجّح أن تُعيد التأكيد على ما ورد في تقرير مارس/آذار الماضي، مع الإشارة إلى تراجع التضخم هذا العام وتباطؤ النمو في 2026. ومع ذلك، يرى اقتصاديون تحدثوا لـ”بلومبيرغ” أن هذه التقديرات قد لا تعكس بالكامل تداعيات الأزمة التجارية التي تلوح في الأفق.
وبحسب كارستن برزيسكي من بنك “أي أن جي”، فإن البنك الأوروبي لن يكون قادرًا على اتخاذ موقف واضح من التعرفات الجمركية قبل انتهاء فترة التهدئة الحالية، والتي تمتد 90 يومًا، وهو ما يعني أن قراراته المقبلة ستتأثر أكثر بعوامل مثل انخفاض أسعار النفط وقوة العملة الموحدة. وفي خطوة غير معتادة، يدرس المركزي الأوروبي نشر سيناريوهات بديلة إلى جانب التوقع الأساسي، وهي ممارسة لم يُلجأ إليها منذ جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، في مؤشر إلى تزايد حالة عدم اليقين.
وفي موازاة مناقشات أسعار الفائدة، يطرح بعض أعضاء المجلس التنفيذي قضية التشديد الكمي، لا سيما ما يتعلّق بإعادة استثمار السندات المنتهية. أما على الأرض، فيراهن المتداولون على خفض آخر على الأقل في أكتوبر/تشرين الأول، مع احتمال تخفيض إضافي بنسبة 30% قبل نهاية العام. ومع ذلك، يرى ربع المحللين أن الاجتماع المقبل قد يُشكّل محطة الختام في سلسلة التيسير النقدي.
سياسة نقدية أوروبية في عالم مضطرب
تأتي تحركات البنك المركزي الأوروبي في وقت يشهد فيه الاقتصاد العالمي اضطرابات متزايدة، تقودها توترات جيوسياسية وتجارية، أبرزها مساعي الولايات المتحدة لإعادة تشكيل خريطة التبادل التجاري العالمي، إلى جانب استمرار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. ويزيد تعقيد المشهد تحوّل البنوك المركزية الكبيرة، مثل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وبنك إنكلترا، نحو سياسات أكثر حذرًا، في محاولة لتفادي الركود دون إشعال موجة تضخمية جديدة.
وفي هذا السياق، يجد المركزي الأوروبي نفسه عالقًا بين ضغوط الأسواق المطالِبة بمزيد من التيسير، ومخاطر عودة التضخم نتيجة لتقلبات أسعار الطاقة والغذاء، فضلًا عن احتمالات اندلاع “حروب تجارية” جديدة قد تقلب موازين الاستقرار النقدي. لذلك، كل خفض في الفائدة لم يعد قرارًا فنّيًا صرفًا، بل خيارًا استراتيجيًا يُعبّر عن رؤية القارة الأوروبية لدورها في الاقتصاد العالمي، وحدود قدرتها على مقاومة الصدمات الخارجية.




