شؤون لبنانية

المسيحيون يعيشون حالةً من الإستياء المعلنة

تهم بالجملة والمفرّق تُوجَّه للمسيحيين أنهم يسعون للعودة إلى ما قبل اتفاق الطائف، أي إلى حقبة “المارونية السياسية”، عندما كان لرئيس الجمهورية السلطة الأكبر والصلاحيات الأوسع في السلطة والنظام، الأمر الذي تبدّل رأساً على عقب بعد العام 1990 ليصبح مجلس الوزراء مجتمعاً هو سيد السلطة ومركز القرار.

يعيش المسيحيون على اختلافهم السياسي، حالةً من الإستياء المعلنة، وليس سراً أن بعضهم سعى طوال 33 عاماً إلى نسف الطائف، لكن من رفضوا الطائف أو قبلوا به على مضض، هم اليوم من أكثر المتمسّكين بإمكانية تحديثه وتطويره وتطبيقه بالشكل الصحيح.

قد يذهب بعض المسيحيين بفعل اليأس إلى خياراتٍ نظرية غير قابلة للتطبيق وهي قاتلة لهم قبل سواهم، المقصود بذلك ما بات يعرف بالدعوة الى قيام نظامٍ فدرالي سياسي على أرض لبنان يتخذ من الطائفية شكلاً له. إلاّ أن الأكثرية العاقلة لديهم لا تزال ترى بأن لبنان الـ 10452 كلم٢ بدولة موحدة بحدودها وجيشها وعملتها الوطنية، هو مشروعٌ قابلٌ للحياة شرط أن تتحقق مجموعة الإصلاحات التي وردت في الطائف ولم تطبّق، وكان من أبرزها قيام نظام اللامركزية الإدارية الذي لا تتحقق منه غاية الإنفصال كما يدّعي البعض، بل تتحقق منه غاية الشفافية وتحقيق الإنماء المناطقي بصورة متوازنة وجعل اللبنانيين في مناطقهم، قادرين على رسم خياراتهم الإقتصادية وتمويل اقتصادهم المحلي والإنتقال من الريع إلى التنافس والتكامل بين المناطق.

كثيرون ما يزالون يأملون بأن اتفاق الطائف، بما يتضمّنه من إصلاحات لتجاوز الطائفية وإنشاء مجلس شيوخ، لا يزال يشكّل فرصةً إذا وُجدت الإرادة. والمسيحيون بسوادهم الأعظم وحدويون وليسوا تقسيميين. هم لا يزالون على المشروع التأسيسي لآبائهم وأجدادهم، أي المشروع الذي انبثق منه لبنان الكبير بعد الحرب العالمية الأولى وتفكّك الدولة العثمانية. لم يذهبوا إلى خيارات الدول الطائفية، لا بل شكّلوا النقيض للمشروع الصهيوني الذي أسّست له القوى الدولية في الفترة نفسها التي تأسّس فيها لبنان الكبير بمبادرة من الكنيسة المارونية بشكلٍ أساسي، ومعها القوى الفكرية والإقتصادية التي تميّز بها الموارنة والمسيحيون في تلك الفترة.

المسيحيون اليوم لا يريدون انفصالاً ولا فرزاً للسكان. هم متواجدون على أرضهم وفي وطنهم من شمال لبنان في أقاصي الهرمل وعكار إلى جنوبه في أقاصي بنت جبيل والنبطية ومرجعيون. هم حلقات الوصل بين جميع الطوائف. نادراً ما تجد قضاءً لا تربط القرى المسيحية فيه بين الطوائف اللبنانية الأخرى، ونادراً ما تجد قريةً في جبل لبنان سواء في جبيل أو المتن أو الشوف أو عاليه إلاّ وترى الإختلاط ميزتها.

المسيحيون لا يبحثون عن وطنٍ قومي لهم في لبنان. هم يبحثون عن وطنٍ لبناني يرتاحون فيه إلى جانب شركائهم، لكنهم صُدموا أكثر من مرة. صُدموا بالممارسات الظالمة التي أصابتهم على يد جزءٍ من قياداتهم، وصدمتهم الكبرى كانت على يد من تسلموا مقاليد الحكم الفعلي في لبنان منذ اتفاق الطائف.

المسيحيون اليوم حائرون. هم قلقون على المصير نظراً لما بلغه وضعهم ووضع وطنهم، لكنهم قلقون أكثر على الخيارات، فلا هم يريدون قوقعةً وانعزالاً ويعلمون أن في ذلك مقتلاً لهم، ولا هم يرتضون البقاء في حالةٍ من الإبتزاز كما هو حاصل منذ 1990 حتى اليوم، وهو ابتزازٌ، جعلهم في الكثير من الأحيان، كما جعل معظم اللبنانيين، يترحّمون على صيغةٍ تمّ إرساؤها في العام 1943 وانتقدوها.

وفي نظرةٍ سريعة، يكفي أن نقول أن المارونية السياسية التي تعرّضت للإنتقاد الشديد وحملت خطايا العالم، سلّمت لبنان الدولة في العام 1990 وهو في حالٍ إقتصادية ومالية قابلة للإستنهاض، فقد بلغ الدين الذي تسلمته دولة ما بعد الطائف من دولة ما قبل الطائف في حدّه الأقصى 800 مليون دولار، فيما نحن اليوم وبعد 33 عاماً نغرق في ما يزيد عن 150 مليار دولار دين فضلاً عن الأراضي التي باعها اللبنانيون وخسروا ممتلكاتهم من جرّائها وذهبت أموالهم هباءً منثوراً.

المارونية السياسية سلّمت لبنان في التسعينات إلى نظامٍ جديد كان يُفترض به أن يطوّر ما وصلت إليه البلاد، وأن يقوم بإلغاء الطائفية وتجاوزها لا تثبيتها، وتفعيل المشاركة لا استبدالها بالمحاصصة. وكأن شعارات كلّ من حاربوا المارونية السياسية بين 1975 و1990 سقطت بفعل ممارساتٍ، لم تُظهر أنهم ومن التسعينات حتى الأمس القريب، كانوا إصلاحيين ويريدون الشراكة والتوازن ومعالجة الحرمان، فإذا بهم يمارسون مع شركاءٍ مسيحيين، كيديةً في السياسة وفساداً في الإدارة وريعاً في الإقتصاد، فانهارت نظم الأخلاق وخسرنا ما كنا نتمتع به من ميزاتٍ تفاضلية.

لبنان المارونية السياسية الذي جرى انتقاده، سلّم لبنان الطائف جامعات ومدارس ومستشفيات ذات مستوى عالٍ، ُيعتبر من أهمّ نماذج العالم العربي، ورغم كل ذلك، يحنّ المسيحيون في لبنان إلى فترةٍ تعرّضت لانتقادٍ ظالم، وكان الأجدى بمن تولّى الحكم، أن لا ينتقم من هذه التجربة بل أن يطوّرها وأن يفي بالوعود التي أطلقها حينما خاض حروباً بإسم الشراكة ورفض الحرمان والتوازن والدولة المدنية وتطوير النظام.

في المحصّلة، يصحّ القول إنه علينا الإنطلاق من حيث انتهت أخطاء المارونية السياسية، لنصحّح ليس فقط ما قامت به من أخطاء في الماضي، بل لنصحّح ما ارتُكب بإسم الشراكة على مدى 30 سنة وأكثر.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى