المسار إلى الحد من التسلح بالذكاء الاصطناعي.
يؤشر هذا العام على الذكرى 78 لنهاية أشد الحروب فتكاً في التاريخ، وبداية الفترة الأطول للسلام في الأزمنة الحديثة، بمعنى أنها خلت من حرب بين قوتين عظميين. ولأنها تلت الحرب العالمية الأولى بعقدين، بقي شبح الحرب العالمية الثانية التي خيضت بأسلحة متطورة إلى حد أن قدرتها التدميرية تهدد نظرياً بمحو الجنس البشري كله، يحوم فوق عقود “الحرب الباردة” التي تلتها.
وحينما أرغم التدمير الذري الأميركي في هيروشيما وناغازاكي، اليابان على الاستسلام المباشر وغير المشروط، لم يفكر أحد بأنه من المعقول فرض وقف شامل على الأسلحة النووية بقوة الأمر الواقع، طوال العقود السبعة التالية. وآنذاك، بدا أن الأمر الأشد شططاً من ذلك، يتمثل بالتفكير في أنه بعد ثمانية عقود، لن تظهر سوى تسع دول نووية. ولسوف يسجل التاريخ أن القيادة التي أظهرتها الولايات المتحدة خلال تلك العقود، في ما يتعلق بتجنب حرب نووية وإبطاء انتشار الأسلحة النووية وإرساء نظام دولي قدم عقوداً من السلام بين الدول الكبرى، تستأهل أن تدرج ضمن الإنجازات الأبرز التي حققتها أميركا.
اليوم، يواجه العالم تحديات فريدة في نوعها تتأتى من تكنولوجيا أخرى غير مسبوقة، بل إنها بمعان كثيرة أشد إثارة للرعب، أي الذكاء الاصطناعي، من ثم ليس من المفاجئ أن يدقق كثر في التاريخ بحثاً عن خلاصات تفيد في المواجهة الحاضرة. هل ستهدد الآلات المتمتعة بقدرات فوق مستوى البشر، وضعية البشرية بوصفها سيدة على الكون؟ هل يزلزل الذكاء الاصطناعي الهيمنة الأحادية للدول في مجال العنف الجماعي؟ هل يمكن الذكاء الاصطناعي أفراداً أو مجموعات صغيرة من إنتاج فيروسات تستطيع ممارسة القتل على مستوى ظل حتى الآن محصوراً بالقوى الكبرى؟ هل يعمل الذكاء الاصطناعي على تآكل منظومات الردع النووي التي شكلت أحد أعمدة النظام الدولي الراهن؟
في اللحظة الراهنة، لا يستطيع أحد أن يجيب عن تلك الأسئلة بثقة. وفي المقابل، لقد تفحصنا تلك القضايا خلال السنتين الأخيرتين مع مجموعة من قادة التكنولوجيا ممن يقفون على الحدود الأكثر تقدماً في ثورة الذكاء الاصطناعي. وتوصلنا إلى أن آفاق التقدم غير المنضبط للذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى تداعيات كوارثية على الولايات المتحدة والعالم، وأنها مؤثرة وملحة إلى حد أنها تفرض على قادة العالم التحرك بفاعلية الآن.
وعلى رغم أن لا أولئك القادة يستطيعون الآن، ولا أي أحد سواهم أيضاً، معرفة ما يحمله المستقبل، فإن ما بات متوفراً من المعرفة [عن الذكاء الاصطناعي] يكفي للشروع في اتخاذ خيارات صعبة والانتقال إلى الأفعال اليوم، مع ملاحظة أن تلك الأشياء [الخيارات والأفعال] ستغدو عرضة للمراجعة المتكررة بالترافق مع اكتشاف مزيد من الأمور عن الذكاء الاصطناعي.
دروس من العصر النووي
عقب تدمير مدن يابانية بالقنابل الذرية في عام 1945، شاهد العلماء ممن فتحوا “صندوق باندورا” الذري، بأعينهم ما ابتكرته أيديهم، وأجفلوا من شدة الرعب. [في الميثولوجيا الإغريقية، يرد ذكر صندوق لساحرة شريرة اسمها باندورا، وقد ملأته باللعنات والمآسي]. وتذكر روبرت أوبنهايمر، العالم الرئيس في “مشروع مانهاتن” [الاسم الحركي لمشروع صنع القنبلة الذرية آنذاك]، سطراً من الملحمة الهندوسية “باغافاد غيتا” مع كلمات “الآن، أصبحت الموت، ومدمر العوالم”.
من ثم أضحى أوبنهايمر مدافعاً صلباً عن اتخاذ إجراءات جذرية بهدف السيطرة على القنبلة الذرية إلى حد أنه حرم من تصريحه الأمني [الذي يخوله حق الاطلاع على مجريات تطور التسليح النووي في بلاده]. وفي 1955، ظهر “مانيفستو راسل- إينشتاين” الذي صاغه الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل والعالم الشهير ألبرت إينشتاين، ووقعه 11 عالماً بارزاً ضمت صفوفهم، مع العالمين اللذين حمل اسمهما، عالم الكيمياء ماكس بورن والاختصاصي في الرياضيات لينوس باولينغ. وحذر ذلك البيان من القوى المخيفة الأسلحة النووية، وناشدوا قادة العالم بألا يستخدموها على الإطلاق.
على رغم أن الرئيس الأميركي هاري ترومان لم يظهروا تراجعاً عن قرارهم [باستخدام القنابل الذرية في اليابان] فإنه لم يمتلك، وكذلك الحال بالنسبة إلى أعضاء فريقه للأمن القومي، أي رؤية فاعلة عن كيفية إدماج تلك التكنولوجيا المؤثرة في النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية. هل يجدر بالولايات المتحدة محاولة الحفاظ على وضعية الهيمنة الأحادية المتصلة بكونها القوة الذرية الوحيدة على الأرض؟ هل لذلك الأمر أن يضحى ممكناً بالأصل؟ في مسار متابعة ذلك الهدف، أتستطيع الولايات المتحدة مشاركة هذه التكنولوجيا مع الاتحاد السوفياتي؟ أيتطلب أمر استمرار الحياة في ظل هذا السلاح، أن يبتكر القادة سلطة ما تعلو على ما تحوزه الحكومات الوطنية؟ آنذاك، اقترح هنري ستيمسون، وزير الدفاع في إدارة ترومان (وقد فرغ لتوه من الإسهام في الانتصار على ألمانيا واليابان)، أنه يجب على الولايات المتحدة مشاركة احتكارها القنبلة الذرية مع القائد السوفياتي جوزيف ستالين ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل، بغية صنع “منزل متعدد البيوت” للقوى العظمى، من شأنه منع انتشار الأسلحة النووية. أنشأ ترومان لجنة ترأسها دين آشسون، مساعد وزير الخارجية، بهدف تطوير استراتيجية تتابع تحقيق اقتراح ستيمسون.
وتوافق آشسون مع ستيمسون بشكل أساس على أن الطريق الوحيد لمنع اندلاع سباق تسلح نووي ينتهي إلى حرب كارثية، يتمثل في إرساء سلطة دولية تكون المالك الحصري الوحيد للأسلحة الذرية. ويتطلب ذلك من الولايات المتحدة أن تتشارك أسرارها النووية مع الاتحاد السوفياتي وأعضاء آخرين في مجلس الأمن الدولي، مع نقل أسلحتها إلى “سلطة التطوير الذرية” الناشئة حديثاً والتابعة للأمم المتحدة، ومنع الدول الأخرى كلها من تطوير أو بناء قدراتها الخاصة في إنتاج مواد نووية بمستوى صنع أسلحة. في 1946، رجال المال والمستشار الرئاسي برنارد باروخ إلى الأمم المتحدة بهدف التفاوض على اتفاق يحقق خطة آشسون. في المقابل، جوبه ذلك الاقتراح برفض منهاجي من قبل أندريه غروميكو، ممثل الاتحاد السوفياتي في الأمم المتحدة.
إنه لأمر أساس ملاحظة الفوارق بين الأسلحة النووية والذكاء الاصطناعي
بعدها بثلاث سنوات، حينما نجح الاتحاد السوفياتي عبر جهوده الحثيثة، في صنع قنبلته الذرية، دخلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في ما شرع الناس بتسميته “الحرب الباردة” التي تمثلت في منافسة تشمل الوسائل كلها خلا القنابل والرصاص. ثمة ملمح مركزي في تلك المنافسة تمثل في السعي إلى التفوق النووي. حينما بلغا ذروتيهما، ضمت الترسانة النووية للقوتين العظميين ما يفوق الـ60 ألف سلاح، بعضها رؤوس حربية بقوة تفجير تزيد عما امتلكته كل الأسلحة التي استعملت في كل الحروب المسجلة في التاريخ. وتناقش الخبراء في مسألة أن اندلاع حرب نووية شاملة إنما يعني نهاية كل نفس حية على الأرض.
على مدى عقود، أنفقت واشنطن وموسكو تريليونات الدولارات على ترسانتيهما النوويتين. وتبلغ الموازنة السنوية للمشروع النووي الأميركي ما يفوق الـ50 مليار دولار. أثناء العقود المبكرة من هذا السباق، أحرزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قفزات فاقت الخيال، في سياق السعي إلى إحراز المكانة الأعلى. وتطلبت زيادة قوة التفجير في الأسلحة تكوين مقاييس جديدة، شملت الكيلوطن (طاقة توازي ما يصدره ألف طن من مادة تي أن تي) الذي استعمل في الأسلحة الأولى المعتمدة على الانشطار النووي، إلى ميغاتون (طاقة توازي ما يصدره مليون طن) بالنسبة إلى القنابل الهيدروجينية المعتمدة على الاندماج النووي.
وكذلك ابتكر الطرفان صواريخ عابرة للقارات تستطيع حمل رؤوس حربية إلى أهداف على الجانب الآخر من العالم خلال 30 دقيقة، وأقمار اصطناعية تطوق الكرة الأرضية على ارتفاع مئات الأميال مزودة بكاميرات تستطيع تعريف الإحداثيات المتعلقة بأهداف لا تزيد على بضعة إنشات [الإنش يساوي 2.54 سنتيمتر]، إضافة إلى منظومات دفاعية تستطيع بصورة أساسية أن ترد على كل رصاصة برصاصة. وبصورة جدية، تخيل بعض المراقبين منظومات دفاعية من شأنها أن تجعل الأسلحة النووية، وفق تعبير الرئيس رونالد ريغان، “عقيمة ومتقادمة”.
ترسانة المفاهيم
في محاولة لوضع صيغة عن تلك التطورات، أنشأ الخبراء الاستراتيجيون ترسانة من المفاهيم للتمييز بين الضربتين الأولى والثانية. وأوضحوا المتطلبات الأساسية للتوصل إلى رد دفاعي موثوق. وكذلك طوروا ثلاثية نووية، الغواصات والقاذفات والصواريخ المستندة إلى قواعد أرضية، بغية ضمن أنه في حال اكتشف الخصم نقطة هشاشة معينة، فستبقى بقية مكونات الترسانة النووية حاضرة لتنفيذ رد مزلزل.
وأدى وجود تصور عن أخطار إطلاق الأسلحة بشكل عرضي أو خارج عن السلطات المخولة، إلى ابتكار صلات مرنة عن تلك الأفعال على شاكلة الأقفال الإلكترونية المثبتة في قلب الأسلحة النووية كي تمنع تشغيلها إلا إذا توفرت الشيفرات الصحيحة للإطلاق النووي.
وصممت التسريحات والإحالات على التقاعد بطرق تضمن الوقاية ضد الاختراقات التقنية التي قد تهدد نظم القيادة والسيطرة، مما أعطى دفعاً لابتكار شبكة تربط الحواسيب، وقد تطورت لاحقاً كي تصبح الإنترنت. وبحسب صيغة شهيرة للمفكر الاستراتيجي هرمان خان، لقد جرى “التفكير بما لا يفكر به”.
يقف مفهوم الردع في القلب من الاستراتيجية النووية، ويعني منع الخصم من الهجوم عبر تهديده بأكلاف تفوق بأشواط أي فائدة قد يتوخاها ذلك الخصم. وتوضح بالتدرج أن الردع الناجح يتطلب عدم الاقتصار على امتلاك القدرة، بل اكتساب الصدقية كذلك، إذ يحتاج الضحايا المحتملون [للسلاح النووي] وسائل للرد بشكل حازم، إضافة إلى امتلاك الإرادة على فعل ذلك.
وتوسع خبراء الاستراتيجية في توضيح هذه الفكرة الأساسية عبر رفدها بمفاهيم من نوع الردع الممتد الذي يشمل توظيف آليات سياسية كالتعهد بالحماية عبر التحالف، بغية إقناع الدول المحورية الفاعلة بالامتناع عن بناء ترسانات خاصة بها.
في 1962، وقف الرئيس الأميركي جون ف. كينيدي بمواجهة القائد السوفياتي نيكيتا خروتشوف حول مسألة الصواريخ المزودة برؤوس نووية وضعها الاتحاد السوفياتي في كوبا. وآنذاك، قدر مجتمع الاستخبارات الأميركي أنه حتى لو أطلق كينيدي الضربة الأولى الناجحة، فلسوف يؤدي الرد السوفياتي بواسطة ما يمتلكه من قدرات، إلى مصرع 62 مليون أميركي.
في عام 1969، حينما أضحى ريتشارد نيكسون رئيساً، احتاجت الولايات المتحدة إلى إعادة التفكير في تلك المقاربة. في وقت لاحق، وصف أحد كاتبي المقال، هنري كيسنجر، ذلك التحدي فأوضح أن “استراتيجياتنا الدفاعية تشكلت عبر فترة من التفوق، ويجب إعادة التدقيق بها في الضوء القاسي للوقائع الجديدة. لن يتمكن أي خطاب عدائي من إخفاء حقيقة أن المخزونات الموجودة بالفعل من الأسلحة النووية تكفي لتدمير الجنس البشري. لا واجب يعلو على ضرورة منع كارثة الحرب النووية”.
وبهدف تنشيط هذا الشرط، ابتكر الخبراء الاستراتيجيون اسماً اصطلاحياً له “ماد” MAD [تكمن اللعبة اللفظية في أن هذه الكلمة تعني مجنوناً بالإنجليزية] التي تلخص عبارة كثيراً رددها ريغان “لا يمكن كسب حرب نووية، من ثم يجب ألا تخاض”. من الناحية العملاتية، يعني الاسم الهشاشة المتبادلة المضمونة mutual assured vulnerability [بمعنى التوثق من أن الطرفين كليهما منكشف بشكل متبادل ومستمر]. وفيما فكرت أميركا وروسيا في الهرب من تلك الوضعية، إلا أنهما توصلا إلى الإقرار بأنهما لا تقدران على ذلك، من ثم يجب عليهما إعادة صوغ علاقتهما بشكل أساس. في عام 1955، أورد تشرتشل مفارقة فائقة الحدة مفادها أن “الأمن سيضحى الطفل العنيد للرعب، وسيغدو الاستمرار في الحياة الأخ التوأم للفناء”. ومن دون إنكار خلافاتهما أو التنازل في المصالح الوطنية الحيوية، طور الخصمان المميتان استراتيجيات هدفها هزيمة الخصم بكل وسيلة ممكنة، ما عدا شن حرب شاملة.
تمثلت إحدى دعائم تلك الاستراتيجيات في سلسلة من القيود المضمرة والمعلنة باتت تعرف الآن باسم الحد من التسلح. وحتى قبل خطة “ماد”، حينما بذلت كلتا القوتين العظميين كل ما بوسعهما في تحقيق التفوق [النووي]، اكتشفت القوتان كلتاهما مساحات من الاهتمامات المتبادلة. وبهدف ضمان خفض أخطار الأخطاء، وافقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عبر نقاشات غير رسمية، على عدم التدخل المتبادل في مناطق الرقابة الإقليمية لكل طرف. وبغية حماية مواطنيهما من التهاطل النووي، وافقت القوتان على حظر التجارب النووية في الجو. وتوخياً لتجنب “أزمة عدم استقرار”، أي نشوء وضعية يشعر فيها أحد الطرفين أنه مجبر على تسديد الضربة النووية الأولى تحت تأثير الاعتقاد أن الطرف الآخر يوشك على فعل ذلك، وافقت القوتان في عام 1972 على “اتفاق حظر الصواريخ الباليستية”، للحد من منظومات الصواريخ الدفاعية.
في عام 1987، وقع ريغان والزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف على تدمير قواتهما الصاروخية المتوسطة المدى عبر معاهدة خاصة بها.
وأدت “المحادثات في شأن تقييد الأسلحة الاستراتيجية” إلى توقيع اتفاقيتين في عامي 1972 و1979، نصتا على تقييد الزيادة في عدد منصات إطلاق الصواريخ الاستراتيجية. وفي خطوة تلت ذلك، أفضت المحادثات نفسها إلى التوقيع على معاهدة “ستارت” START، اختصار الحروف الأولى من “معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية” Strategic Arms Reduction Treaty، التي وقعت في 1991، ثم “نيو ستارت” التي وقعها الطرفان في 2010، وتضمنت خفضاً لأعداد تلك الأسلحة.
لعل الشيء الذي يمتلك التداعيات الأكثر تأثيراً، تمثل في توافق الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على أن نشر الأسلحة النووية إلى بلدان أخرى يفرض أخطاراً عليهما معاً، ويوصلهما في خاتمة المطاف إلى خطر الفوضى النووية.
من ثم توصلا معاً إلى ما يشار إليه الآن بمسمى نظام عدم تكاثر الأسلحة النووية الذي تجسد ركنه الأساس في “معاهدة الحد من الأسلحة النووية” لعام 1968. وبفضل تلك المعاهدة، تتعهد اليوم 186 دولة الامتناع عن تطوير ترسانات نووية خاصة بها.
السيطرة على الذكاء الاصطناعي
في خضم المقترحات المتداولة عن طرق احتواء الذكاء الاصطناعي، تتردد أصداء من ذلك الماضي [المتعلق بالحرب الباردة والتسلح النووي]، إذ طلب البليونير إيلون ماسك فرض التوقف عن تطوير الذكاء الاصطناعي لستة أشهر، واقترح الباحث في الذكاء الاصطناعي إليازر يودكوفسكي التخلص منه، وطلب غاري ماركوس الاختصاصي في الطب النفسي أن يصار إلى السيطرة على الذكاء الاصطناعي عبر كيان دولي.
وتعتبر تلك المقترحات تكرراً بشكل أساس لمقترحات من عصر النووي وقد ثبت فشلها. ويرجع السبب في ذلك أن كل واحد من تلك المقترحات يتطلب من الدول الرائدة في الذكاء الاصطناعي، التخلي عن سيادتها أو إخضاعها لسلطة تعلو عليها. لم يحدث في التاريخ أن تخلت قوة عظمى عن تطوير تكنولوجيا تمتلكها، بسبب خشيتها من أن يستخدمها أحد خصومها ضدها. وحتى الحلفاء الأقرب إلى الولايات المتحدة كالمملكة المتحدة وفرنسا، اختاروا تطوير قدراتهم النووية الخاصة، إضافة إلى استمرارهم في الاعتماد على المظلة النووية للولايات المتحدة.
وكي نتبنى دروساً من التاريخ النووي ونعدلها كي تتلاءم مع التحدي الراهن، من الأساس ملاحظة الفوارق البارزة بين الذكاء الاصطناعي والأسلحة النووية.
أولاً، لقد قادت الحكومات عملية تطوير التكنولوجيا النووية، فيما يتطور الذكاء الاصطناعي على يد المستثمرين من القطاع الخاص والتقنيين والشركات. وبأشواط ضخمة، يتقدم العلماء العاملون لدى “مايكروسوفت” و”غوغل” و”أمازون” و”ميتا” و”أوبن آي” ومجموعة من الشركات الصغيرة الصاعدة، على نظرائهم ممن يقودون جهوداً مماثلة لدى الحكومات. أكثر من ذلك، باتت تلك الشركات منخرطة بصرامة في صراع ضار بين بعضها بعضاً، مما يحفز الابتكار حتماً، لكن مع تكبد ثمن لقاء ذلك. وفيما يجري أولئك اللاعبون المنتمون إلى القطاع الخاص حساباتهم في شأن التوازن بين الأخطار والمكاسب، فمن المحتم أنهم يعطون أوزاناً أقل للمصالح الوطنية.
ثانياً، الذكاء الاصطناعي رقمي. تميزت الأسلحة النووية بصعوبة إنتاجها الذي يتطلب بنية تحتية معقدة ومتطورة في إنجاز الأمور المتعلقة بها من تخصيب اليورانيوم إلى تصميم الأسلحة النووية. وتمثلت المنتجات في أشياء مادية ملموسة وقابلة للإحصاء. وحيثما أمكن التثبت من أفعال الخصوم، صنعت قيود وضوابط مناسبة لها. في المقابل، يمثل الذكاء الاصطناعي تحدياً مختلفاً، إذ تحدث تطوراته الكبرى في عقول كائنات بشرية. وتتبدى إمكانات تطبيقه في المختبرات، وتصعب مراقبة طرق توظيفه والاشتغال به. إن الأسلحة النووية ملموسة ومحسوسة فيما جوهر الذكاء الاصطناعي أنه معطى فكري.
ثالثاً، يتقدم الذكاء الاصطناعي وينتشر بسرعة تجعل المفاوضات المطولة في شأنه أمراً مستحيلاً. في المقابل، تطورت عمليات الحد من التسلح على مدى عقود. ويجب تقييد الذكاء الاصطناعي قبل تركيبه ووضعه بتصرف البنية الأمنية للمجتمعات، أي قبل أن تشرع الآلات في أن تتولى بنفسها وضع أهدافها الخاصة، وذلك ما قد يتحقق خلال السنوات الخمس المقبلة بحسب بعض الخبراء. ويفرض هذا العنصر الزماني إجراء نقاشات وتحليلات وطنية أولاً ثم عالمية، بالترافق مع العمل على آليات جديدة في العلاقة بين الحكومة والقطاع الخاص.
ولحسن الحظ، إن الشركات الكبرى الرئيسة التي طورت الذكاء الاصطناعي التوليدي Generative Artificial Intelligence وجعلت الولايات المتحدة قوة عظمى رائدة في الذكاء الاصطناعي، تقر [الشركات] بأن لديها مسؤوليات لا تقتصر على المساهمين فيها، بل تشمل البلد [أميركا] والإنسانية بشكل عام. وبالفعل، طورت مجموعة من تلك الشركات خطوطاً توجيهية وإرشادية تتعلق بتقييم الأخطار قبل وضعها موضع التطبيق، وتخفيف الانحياز المسبق المنبث في ثنايا البيانات المستعملة في تدريب الذكاء الاصطناعي، وتقليص الاستخدامات الخطرة لنماذجها فيه. وكذلك تستكشف مجموعة أخرى من الشركات سبل رسم حدود صارمة للتدريب وفرض سياسة “اعرف من يستخدمك”، مع متطلباتها، على مقدمي خدمات الحوسبة السحابية. وفي خطوة وازنة بالاتجاه الصحيح، جاءت مبادرة إدارة بايدن المعلنة في يوليو (تموز) 2023 عقب لقاء في البيت الأبيض مع سبع من كبريات شركات الذكاء الاصطناعي، خلص إلى تعهدهم بإرساء خطوط إرشادية تضمن “السلامة والأمان والثقة”.
ووفق ما أوضح أحد كاتبي هذا المقال، هنري كيسنجر، في كتابه “عصر الذكاء الاصطناعي”، ثمة حاجة ملحة وعاجلة لإيجاد دراسة منهاجية عن التداعيات والإملاءات الطويلة الأجل المتضمنة في التطور المبهر غالباً، لابتكارات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته. وعلى رغم أن الولايات المتحدة منقسمة على نحو لم تعرفه منذ الحرب الأهلية، فإن مقدار الأخطار المتضمنة في التطور المنفلت للذكاء الاصطناعي، يفرض على القادة في السياسة والأعمال، الشروع في العمل الآن. ثمة شركات تتمتع بامتلاك قدرات واسعة في الحوسبة تكفل لها تدريب نماذج جديدة في الذكاء الاصطناعي، وكذلك توجد شركات ومجموعات بحث تعمل على تطوير نماذج جديدة من الذكاء الاصطناعي. ويجب على كل شركة ومجموعة منها أن تنشئ مجموعة تتخصص في تحليل الإملاءات الإنسانية والجيوسياسية المترتبة على عملياتها التجارية في الذكاء الاصطناعي.
واستطراداً، يواجه هذا التحدي الحزبين [الجمهوري والديمقراطي]، ويتطلب استجابة موحدة منهما. وفي تلك الروحية، يجب على الرئيس والكونغرس تأسيس لجنة وطنية مؤلفة من قادة سابقين مميزين وغير منحازين حزبياً، من القطاع الخاص، والكونغرس، والجيش ومجتمع الاستخبارات. ويجب على تلك اللجنة أن تصنع اقتراحات عن ضوابط إلزامية شديدة الدقة. ويفترض أن تتضمن تلك الضوابط متطلبات في شأن التقييم المستمر والمتواصل للقدرات الواسعة في الحوسبة من النوع المطلوب في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على غرار “جي بي تي- 4” GPT 4، وإلزام الشركات أن تنهك النماذج اختباراً وتدقيقاً قبل طرح أي نموذج جديد منها.
وعلى رغم الصعوبات التي تتطلبها مهمة تطوير قوانين وضوابط وقواعد، فإن تلك اللجنة ستجد نموذجها في “لجنة الأمن القومي عن الذكاء الاصطناعي”، إذ أعطت توصيات اللجنة الأخيرة، وقد صدرت في 2021، الحافز والتوجيه لمبادرات تنخرط فيها بالفعل هيئات الاستخبارات والجيش في سياق المواجهة التنافسية في الذكاء الاصطناعي مع الصين.
القوتان العظميان في الذكاء الاصطناعي
في خضم هذه المرحلة المبكرة، فيما الولايات المتحدة لا تزال تبتكر أطراً خاصة بها في شأن حوكمة الذكاء الاصطناعي ضمن البلاد، ليس من المبكر الشروع في حوارات جدية مع القوة العظمى الوحيدة الأخرى في الذكاء الاصطناعي. إن الأبطال الصينيين القوميين في قطاع التكنولوجيا على غرار “بايدو” (محرك البحث المعتمد داخل الصين)، و”بايت دانس” (المبتكرة لتطبيق “تيك توك”)، و”تنسنت” (صانعة تطبيق “ويشات” للتواصل الاجتماعي) و”علي بابا” (رائدة في التجارة الإلكترونية)، يعملون على صنع منتجات أصيلة باللغة الصينية تشابه “تشات جي بي تي”، على رغم أن النظام السياسي في الصين فرض صعوبات خاصة على الذكاء الاصطناعي. وفيما تتأخر الصين في التكنولوجيا المتعلقة بصنع أشباه موصلات فائقة التطور، إلا أنها تملك الأساسات لاكتساب القوة اللازمة في المستقبل القريب مباشرة.
ومن ثم، يجب على بايدن وشي اللقاء في المستقبل القريب لعقد حوار خاص عن السيطرة على أسلحة الذكاء الاصطناعي. ويقدم اللقاء المزمع عقده في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل في سان فرانسيسكو لمجموعة “التعاون الاقتصادي لآسيا- المحيط الهادئ”، فرصة مناسبة لذلك [الحوار بين بايدن وشي]. يفترض بكل من القائدين أن يناقش كيف ينظر بشكل شخصي إلى الأخطار التي يطرحها الذكاء الاصطناعي، وما الذي تفعله بلاده لمنع التطبيقات التي تهدد بأخطار كارثية، وكيف تعمل على ضمان ألا تستورد شركات بلاده أخطاراً متصلة بالذكاء الاصطناعي. وكي يزودا الجولة المقبلة من الحوار بالمعلومات، يجب عليهما إنشاء مجموعة استشارية تتكون من علماء الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة والصين، إضافة إلى آخرين ممن فكروا ملياً في الإملاءات المترتبة على تلك التطورات. كذلك يجب قولبة هذه المقاربة كي تتلاءم مع دبلوماسية “الممر الثاني” Track II المعتمدة في حقول أخرى، الذي يضم مجموعات مكونة من أفراد جرى اختيارهم بسبب حكمتهم وإنصافهم، على رغم أنهم ليسوا مؤيدين رسمياً من حكوماتهم. من نقاشاتنا مع علماء أساسيين في الذكاء الاصطناعي في الحكومتين [الأميركية والصينية]، نثق أن ذلك قد يفضي إلى نقاش مرتفع الجدوى.
استطراداً، ستشكل الحوارات والأفعال الصينية والأميركية في تلك الأجندة، جزءاً من نقاش عالمي متصاعد حول الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك “مؤتمر مأمونية الذكاء الاصطناعي” AI Safety Summit الذي تستضيفه المملكة المتحدة في نوفمبر المقبل، وكذلك الحوار الدائر في الأمم المتحدة. ولأن كل دولة ستسعى إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في تعزيز حياة مواطنيها مع ضمان الأمان لمجتمعها، سيغدو مطلوباً في المدى المتوسط، إرساء نظام عالمي للذكاء الاصطناعي.
ويجب أن يستهل العمل على تشكيله عبر جهود وطنية بغية درء التداعيات الأشد خطورة للذكاء الاصطناعي التي تحمل في ثناياها أبعاداً كوارثية. ويجب أن تتكامل تلك المبادرات مع حوار بين علماء في بلدان مختلفة منخرطين في تطوير النماذج الكبرى للذكاء الاصطناعي، وبين أعضاء في لجان وطنية على غرار تلك التي جرى اقتراحها آنفاً. ويجب أن تسعى مفاوضات حكومية رسمية، تنعقد بصورة أساسية بين بلدان تمتلك برامج متقدمة في الذكاء الاصطناعي، إلى إرساء إطار دولي، بالتوازي مع وكالة دولية تقارن بـ”الوكالة العالمية للطاقة الذرية”.
كخلاصة، إذا تحرك بايدن وشي وقادة آخرون في العالم الآن لمجابهة التحدي الذي يفرضه الذكاء الاصطناعي، بما يتوازى مع الجهود التي بذلها أسلافهم في التصدي للأخطار النووية في العقود القليلة الماضية، فهل سينجحون؟
إذا نظرنا إلى اللوحة الواسعة للتاريخ والانقسام الاستقطابي السائد الآن، فمن الصعب أن تأتي الإجابة بالإيجاب. وفي المقابل، إن الحقيقة المبهرة المتمثلة في أننا نسجل الآن مرور 78 سنة من السلاح بين القوى النووية، يجب أن تلهم كل واحد منا للاجتهاد في السيطرة على مستقبلنا للذكاء الاصطناعي، مع ما يحمله من تغييرات ثورية وتحديات لا مفر من مواجهتها.
المصدر: إندبندنت.