“الربيع العربي”… ما قبل وما بعد
كتب رفيق خوري في صحيفة إندبندنت عربية.
الزمن متواصل، فلا أحداث تقع في معزل عما وراءها أو يمكن فصلها عما يأتي بعدها، وليس تقسيم الزمن إلى عصور وحقب سوى ترتيب نظري لتسهيل القراءة في التاريخ، ومن هذا الباب فإن السؤال عن حال العرب في الذكرى الـ 13 لما سمي بـ “الربيع العربي” وما آل إليه يفرض العودة للعقدين اللذين سبقاه والتوقف أمام العقد الذي تلاه، ولا يبدل الأمر الاعتقاد بـ “أن الوقت موت” كما قال بطرس الأكبر، فالعقد الأخير من القرن الـ20 كان عقد الانبهار بالتحولات الهائلة التي حدثت، ولا سيما في القارة العجوز أوروبا بعد انهيار جدار برلين ونهاية الحرب الباردة والاتحاد السوفياتي، وأكثر ما شاع فيه هو حديث النهايات.
“نهاية التاريخ” بحسب فرنسيس فوكوياما، و”نهاية الجغرافيا” كما رآها المنظرون للعولمة، و”نهاية الأيديولوجيا” في رأي علماء السياسة، شيء من أوهام ثبت عكسها وشيء من أحلام تحقق بعضها في أوروبا الشرقية، وأحادية أميركية على قمة النظام العالمي قادت إلى جنون القوة قبل أن تصطدم بالتضاريس التاريخية، ومعادلة صحيحة وضعها كيشور محبوباتي رداً على نظرية فوكوياما، وهي أن “نهاية التاريخ تعادل انتصار الغرب، وعودة التاريخ تعادل تراجع الغرب”.
العقد الأول من القرن الـ21 كان عقد التجارب الراديكالية لتغيير العالم التي دفع إليها المحافظون الجدد في ولاية الرئيس جورج بوش الابن، وقد ساعدهم هجوم “القاعدة” الإرهابي في أميركا وتدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك بتفجير الطائرات المدنية فيهما.
ومن هذه التجارب غزو أفغانستان لإخراج “القاعدة” وإنهاء حكم “طالبان”، وهو ما انتهى بعد 18 عاماً من الاحتلال الأميركي إلى الانسحاب المذل وعودة “طالبان” لحكم “الإمارة الإسلامية”، وغزو العراق وإسقاط نظامه ودولته بحجة أن الرئيس صدام حسين دعم “القاعدة” ويملك أسلحة دمار شامل، وهو ما فتح السد أمام اندفاع النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، كما فشلت إستراتيجية العمل للتغيير الديمقراطي بالقوة العسكرية الأميركية ضمن مشروع “الشرق الأوسط الكبير الجديد”، وأول ناقدين للغزو من داخل أميركا جاء من جورج كينان صاحب نظرية “الاحتواء” للاتحاد السوفياتي، والمتخصص الإستراتيجي أنطوني كوردسمان.
كينان قال إن “التاريخ أظهر أنه على رغم أنك تبدأ حرباً وفي ذهنك أشياء محددة، فإنك تجد نفسك في النهاية تقاتل من أجل أشياء مختلفة لم تفكر فيها من قبل، وحتى لو كان صدام يملك أسلحة دمار شامل فإن المسألة إقليمية وليست محل اهتمام أميركا”، وقد تأكد المحققون من أن العراق خال من أسلحة الدمار الشامل، وقال صدام للأميركيين الذين حققوا معه في السجن إنه ادعى ملكية الأسلحة لضمان التوازن مع إيران.
أما كوردسمان فقال إن “حرب ما بعد الحرب أصعب من الحرب ضد صدام”، والوضع الحالي في العراق شاهد.
العقد الثاني من القرن الـ21 كان عقد “الربيع العربي”، وكان ربيعاً بدأ بانتفاضات سلمية في تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن قبل أن تُحول التظاهرات السلمية إلى حرب وتقبض عليها قوى الإسلام السياسي الإرهابية بدعم إقليمي ورهان أميركي خبيث وسخيف خلال ولاية أوباما، على تقسيم المنطقة بين محور تقوده إيران الشيعية ومحور إخواني إسلامي تقوده تركيا، وهذا ما دفع المؤرخ والمستشرق برنارد لويس إلى كتابة مقالة نشرتها “فورين أفيرز” تحت عنوان “أحرار أخيراً”، وجاء فيها أن “العرب أخذوا أمورهم بأنفسهم بعد عقود من الحكم الأوروبي والحكم العثماني، ثم الأوروبي والصراع بين الجبارين وانهيار الاتحاد السوفياتي”.
أحرار أخيراً؟ أية حرية في بلدان تتقاسمها الميليشيات المسلحة من ليبيا إلى سوريا واليمن، وبلدان تحت أنظمة مركزية صارمة من تونس إلى مصر بعد التخلص من تحكم “الإخوان المسلمين”، فحتى ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 في لبنان والعراق مع نهايات العقد اصطدمت بأمراء الطوائف والميليشيات والنفوذ الإقليمي.
أما العقد الثالث الحالي من القرن الـ21 فهو عقد الكوابيس والحروب، ثلاثة حروب في أوكرانيا وغزة والسودان من دون أفق مفتوح لنهاية صالحة، وكوابيس في بلدان 90 في المئة من شعوبها تحت خط الفقر وفي حاجة إلى مساعدات غذائية وطبية عاجلة، وحتى العولمة صارت كابوساً يهرب منه الغرب.
جنرالات يتصارعون على السلطة في بلد فقير، ومافيات تسيطر على المال والسلطة في بلدان عدة، ومنظمات إرهابية تمارس أبشع أنواع الجرائم بحجة الدعوة إلى أنظمة دينية من خارج العصر، لكن هناك نافذة ضوء مشعة وهي العمل على تحسين الشروط الإنسانية للعيش في بلدان عربية تركز على التنمية والتعليم العالي وتمكين المرأة وتوظيف التكنولوجيا في خدمة المستقبل والبناء السلمي.