رأي

الثابت والمتحرك في حرب “حزب الله” على إسرائيل

كتب وليد فارس في صحيفة إندبندنت عربية.

من مراقبة تطور المواجهات العسكرية والأمنية بين “حزب الله” وإسرائيل منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 حتى توجيه ضربات إسرائيلية إلى داخل الحزب عبر عمليات هائلة، بدأنا نرى خيوطاً لثوابت ومتغيرات في الحرب بين الحزب وإسرائيل.

فعلى مدى عام تقريباً منذ غزوة “حماس” النقب، والطرفان يتواجهان في ميدان المدفعية والصواريخ وعمليات الكوماندوس والإعلام والبروباغندا، من دون هوادة على طول الحدود اللبنانية وعلى أراضي الجليل والجنوب اللبناني.

وسنسعى في هذه المقالة المقتضبة إلى تحديد ما هي الثوابت القائمة في هذه المواجهة الطويلة التي لا تقارن في طولها إلا الحرب الأولى العربية – الإسرائيلية عام 1947 إلى منتصف عام 1948، فكل الحروب العربية – الإسرائيلية الأخرى انتهت بأسبوع أو أسابيع عدة ما عدا حرب غزة التي امتدت النيران فيها إلى جنوب لبنان.

ولكننا نرى أيضاً الفوارق ما بين بداية هذه الحرب بين الطرفين وطوال أشهر من المواجهات، والمرحلة التي دخل بها الاثنان الآن، لا سيما منذ عمليات الـ”بيجر”.

فالفوارق والثوابت باتت تقريباً متوازية ومتزامنة، وقد تلقي الضوء على الطريق الذي يمكن أن يسلكه الطرفان حتى الانتخابات الأميركية وبداية الإدارة الأميركية الآتية. وبحثنا عن تلك الثوابت المحلية بين إسرائيل و”حزب الله”، والإقليمية أيضاً بين إسرائيل والنظام الإسلامي في طهران، ورأينا أن هناك من فسّر هذه الثوابت والفوارق من نظرته الخاصة، فكان عدد من الناس مقتنعين بأن هناك “وفاقاً” إسرائيلياً مع “حزب الله” ويمتد إلى إيران، وقد سقطت هذه النظرية الآن، وهناك من كان يعتقد بأن التوافق الحقيقي هو بين إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وإيران، وأن إسرائيل تحاول أن توازن مصالحها من ضمن هذا الواقع الذي بدأ منذ عام 2000.

وقبل الدخول في الفوارق والثوابت بين الطرفين لا بد من أن نسجل التالي، لا بد من أن نسجل سقوط الروايات المتمادية في الشرق الأوسط وفي العالم العربي عن اتفاق بين إسرائيل و”حزب الله”، وهو كلام كان مدسوساً من قبل النظام الإسلامي في إيران وميليشياته لتمييع قرار المعارضات في لبنان وسوريا والعراق في معارضة طهران وميليشياتها عبر، فقط، بث روايات على مدى أعوام بأن هناك شبه “تنسيق” وتحالف بين “حزب الله” وإسرائيل، ولكن حوادث الأسبوع الماضي أكدت أن هذا الكلام فارغ وليس فيه شيء من الحقيقة بالنظر إلى الضربات التي وجهتها تل أبيب إلى الحزب في عمقه، وقصف الحزب مواقع داخل إسرائيل، وتهجير أكثر من 200 ألف إسرائيلي، تثبت أن كل تلك الروايات كانت من صنع “المحور” لإضعاف تصميم المجتمعات الشرق أوسطية والعربية، بخاصة في لبنان كمحاولة لإقناعها بأن معارضة الحزب وميليشياته لن تجدي نفعاً، بالتالي تمنع السياسيين اللبنانيين منذ أعوام من بناء معارضة جدية لمقاومة تلك الميليشيات، مما أدى إلى خسائر فادحة لهذه المجتمعات في السياسة السيكولوجية، وهي إعلام البروباغندا الذي يبث خرافات داخل المجتمعات لإقناعها بأنها غير قادرة على المعارضة والمقاومة، وتلتهي بقصص لا صلة لها بالحقيقة، مما يعني أن مقاومة النفوذ الخميني في لبنان تأخر أكثر من 20 عاماً بسبب هذه المقولات، والآن نرى بوضوح أن الدولة الإسرائيلية ومحور إيران هما في حرب شرسة ضد بعضهما بعضاً حتى النهاية، وهذا إن يقود إلى شيء فهو يقود إلى معرفة الحقيقة العميقة، وتوجيه الأطراف في المنطقة لإعادة اللحمة بين القوى الحرة من ناحية، ومواجهة المحور من ناحية أخرى.

أما بالعودة لما نطلق عليه اسم الثوابت، فهو بالفعل معادلات ثابتة، ولكن حتى أن تتغير ما بين إسرائيل و”حزب الله”، حتى منذ غزوة السابع من أكتوبر فهي التالية:

أولاً، إسرائيل و”حزب الله” لن يدخلا في حرب إلى النهاية، إلا أن تغييراً بالعمق حدث بالنسبة إلى “حزب الله” مع عملية تفجير الـ”بيجر” التي طاولت أعضاء وكوادر وقيادات عالية تابعة للميليشيات. والحزب كان مقتنعاً بالتمنع عن القيام بعملية واسعة، لا سيما غزوة ميدانية عميقة ضد إسرائيل كما فعلت حركة “حماس”، أي غزوة احتلالية داخل الجليل الأعلى لأن طهران لم تتخذ القرار بعد بدعم الحزب في معركة كسر عظم مع إسرائيل ما لم يحصل النظام على ضمانات من الدول الكبرى أن إسرائيل لن تستهدفه مركزياً وداخلياً لأن ذلك قد يؤدي بالنظام إلى استعمال كل أسلحته، ولا نعرف إذا كانت بين هذه الأسلحة تلك التكتيكية النووية، أو حاملة الرؤوس للأسلحة غير التقليدية التي بإمكانها أن تضرب الأمن القومي لإسرائيل، وتدفع طهران وتل أبيب إلى معركة الحسم الأخيرة التي قد تنشر النار في البلدين معاً. وما لم تعطِ طهران موافقتها لعملية من قبل الحزب ضد الجليل، فإن هذا الأخير قد يستمر في قصف مواقع داخل إسرائيل، ولكن من دون هجوم انتحاري لقواته الميدانية على الأراضي الإسرائيلية واعتقال أسرى مدنيين واقتحام مدن داخل الحدود الإسرائيلية. هذا الثابت لدى “حزب الله” وهو معروف وقائم، ولكن بشروط قابلة للتغيير، فإذا حاولت إسرائيل اجتياح مواقع الحزب بصورة عميقة، أو أن تطوقها، وأن تضرب الضاحية الجنوبية لبيروت بصورة تنهي قدراته العسكرية، أو حتى أن تتدخل في مواجهات داخلية لبنانية، فإن ذلك سيدفع الحزب إلى القيام بعملياته الأخيرة الكبرى. ما دون ذلك فإن هذا الثابت بالنسبة إلى “حزب الله” بات مفهوماً عند المراقبين.

في المقابل، فإن إسرائيل حتى الآن لن تقوم بعملية عسكرية برية واسعة في الأراضي اللبنانية وبعمق يفوق الـ 20 كيلومتراً كما حدث عام 1982.

أما وراء هذا القرار، فهو اقتناع الإسرائيليين بالتخلي عن الاجتياحات، إذ إنه منذ عام 1985، وبعد ذلك منذ 2000، بات هناك قرار استراتيجي داخلي مدعوم شعبياً من الرأي العام الإسرائيلي، لا يريد ولا يتحمل الدخول إلى لبنان والتمركز فيه، ولعل هذا منبثق من الـ”تروما” Trauma التي صعقت الشعب الإسرائيلي منذ خروجه من لبنان في مايو (أيار) 2000. فالرأي العام الإسرائيلي يتذكر، أو يقرأ، ما حصل لقواته التي دخلت منتصرة بحسم عسكري كبير ضد “منظمة التحرير الفلسطينية” وحلفائها في لبنان عامي 1982 و1983، وكيف أن حلفاءها وقتها، أي الجبهة اللبنانية والمجموعات المؤيدة للتحالف اللبناني – الإسرائيلي خذلت حكومة مناحيم بيغن، وكيف أن الحكم في لبنان انسحب من اتفاق الـ 17 من مايو للسلام.

هنا، بالمقارنة بين الموقفين الإسرائيلي والإيراني، (النظام) فإن الطرفين سيذهبان إلى أبعد الحدود العسكرية، ولكن ستبقى هناك “حدود” حتى إشعار آخر. فإسرائيل ستصعّد داخل لبنان ولكنها ستسعى إلى عدم القيام باجتياح أرضي واسع واحتلال طويل. أما الحزب، فسيستمر بقصفه وعملياته، ولكن لن يزجّ بقوات برية للإمساك بأراضٍ إسرائيلية.

إلا أن هذه الثوابت التي دامت عقوداً، ليست بالضرورة أبدية، إذ إن حرب السابع من أكتوبر غيّرت كثيراً من المعطيات، وهذه التغييرات باتت تضغط على المتحاربين للتعديل في نهجهم. فإسرائيل التي كانت تأثرت بصدمة حرب لبنان حتى عام 2000، والتزمت أنها لن تتدخل في شؤون لبنان الداخلية، أي إنها لن تدخل في لعبة إعادة تركيب لبنان وفرض معاهدة سلام عليه قد تتغير من جديد. فتطور الحرب قد يدفعها إلى خطوات بهذا الاتجاه تدريجاً، كما أن محور طهران كان التزم عدم شنّ حرب عميقة على إسرائيل وترك الفلسطينيين في الداخل ينتفضون، ولكن جهة ما خرقت الـ”ستاتيكو” وفتحت باب المتغيرات.

ومن دون شك هذه الجهة هي “حماس” بإطلاقها غزوة النقب، فأجبرت إسرائيل على تغيير معادلات عدم اجتياح أرض عربية بدخولها غزة، مما ألزم “حزب الله”، الملتزم ألا يفجر حرباً مفتوحة عميقة ضد إسرائيل، فتحها. فالهجوم الدموي لـ “حماس” على المدنيين كسر عقدة الاجتياحات لدى إسرائيل التي منعت قياداتها من اجتياح أراضٍ مجاورة لها. فدخلت قواتها قطاع غزة وصارعت “حماس”، على مدى عام تقريباً، وقواتها على وشك اجتياز أراضٍ لبنانية بعد قصف “حزب الله”. والمعادلة الجديدة يمكن أن تتطور لا سيما بعد انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل (الرئاسية الأميركية). وقد تشهد تحركات تطيح بالـ”ستاتيكو” القائم منذ ثلاثة عقود إذا لم يحصل الشيء الأول، وهو أن تتم فكفكة “حماس” في قطاع غزة، والثاني أن يتراجع “حزب الله” عن المنطقة الحدودية مع إسرائيل، وأن يخرج من بيروت وجبل لبنان والشمال. فإذا تمت الخطوات هذه قد يتغير الـ”ستاتيكو”، ولكنه سيثبت في معادلة جديدة، وإن استمرت “حماس” بالمواجهة فستسيطر إسرائيل على القطاع ولا يُعلم مصيره. أما “حزب الله”، فإما أن يقبل المعادلة الجديدة أو قد تدخل إسرائيل لبنان لتضرب الحزب، وتسعى إلى تغيير تركيبته، بغض النظر عن النجاح أو الفشل.

وقد تقود التدخلات الجديدة إلى تغييرات في المنطقة ككل بما فيها نتائج استراتيجية في سوريا والعراق واليمن وربما حتى إيران. ولا يخفى على أحد أن عاملاً كبيراً سيكون له دور أساس في هذه المتغيرات وهو الانتخابات الأميركية لأن المعسكرين في الولايات المتحدة لهما تطورات مختلفة جذرياً، وبات من شبه الواضح أن معسكرات الشرق الأوسط تنتظر نتائج هذه الانتخابات لتهندس خطواتها واستراتيجياتها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى