أبرزشؤون لبنانية

افتتاحية اليوم: مسكّنات لا تلامس الوجع.

يقف موظفو القطاع العام في لبنان في هذه المرحلة على مفترقٍ خطير، فأجورهم تآكلت، وامتيازاتهم تبخّرت، ومعاشاتهم التقاعدية صارت ذكرى من زمن الدولة. والآن، تبرز على طاولة مجلس الوزراء مسألة تسوية الأوضاع، كخشبةِ خلاصٍ معلّقةٍ في فراغٍ سياسي ومالي خانق. لكن، هل يكفي الاعتراف بالأزمة؟ أم أن الوقت قد فات لإنقاذ هذا القطاع من السقوط التام؟

لا شكّ أن ما يعيشه العاملون في القطاع العام ليس مجرّد مسألة رواتب مجمّدة أو تقديمات مهدورة، إنها أزمة وجودية تضرب في عمق الهيكل الإداري اللبناني. فالموظف الذي كان بالأمس رمزًا للانتظام والضمان الوظيفي، بات اليوم يبحث عن وسيلةٍ لمغادرة البلاد أو وسيلةٍ لتحمّل كلفة التنقّل إلى وظيفته.

صحيح أن الحكومة تقدّم بعض التعويضات الاستثنائية والمساعدات المؤقتة بين الحين والآخر، لكنها تحوّلت إلى “مسكّنات” لا تلامس وجع الواقع، بل تؤجّل الانفجار. فالحكومة تطرح اليوم خيار “تسوية أوضاع العاملين في القطاع العام”، لكن السؤال الجوهري يبقى: ما المقصود فعليًا بالتسوية؟ هل هو رفع تدريجي للرواتب؟ إصلاح نظام التقاعد؟ دمج المساعدات ضمن الأساس؟ أم مجرّد إدارة للغضب الشعبي بتعويضاتٍ مرحلية تُربط بشروط الحضور والانضباط؟

ما يُخشى منه، هو أن تتحوّل هذه “التسويات” إلى وسيلةٍ لتمرير الانكماش الإداري المُقنّع، أي إفراغ الملاك، تجفيف الحوافز، وتفريغ المؤسسات من كفاءاتها تمهيدًا للخصخصة أو التعاقد الخارجي، وهذا خيارٌ قد يُنهي ما تبقّى من صورة الدولة كضامنٍ للوظيفة والعدالة.

بات من المؤكد أن لا تسوية ممكنة من دون رؤيةٍ شاملة، فالمشكلة لا تُحل عبر مرسومٍ استثنائي أو جدولٍ جديدٍ للرواتب، لأن المطلوب برنامجٌ متكامل يشمل:

  • إعادة هيكلة سلّم الرواتب بربطه بمؤشرات التضخّم الفعلية.
  • إصلاحٌ جذري لأنظمة التقاعد والصناديق الضامنة.
  • دمج المساعدات الاستثنائية ضمن الأجر الأساسي.
  • إقرار قانونٍ موحّدٍ وعادل للعاملين في القطاع العام، يُساوي بين الفئات المختلفة دون تمييز.

والأهم، أن يتم تمويل هذا الإصلاح من خارج جيوب الفقراء، فتمويل القطاع العام لا يجب أن يكون رهينة المزيد من الضرائب العشوائية في الموازنات العامة، بل عبر إصلاحاتٍ جذريةٍ في الجباية، مكافحة الهدر، واستعادة الأموال المنهوبة. ولذلك تبقى كل “التسويات” حبرًا على ورق ما لم تتوافر الإرادة السياسية الحقيقية.

فإصلاح القطاع العام ليس ملفًا إداريًا فحسب، بل اختبارًا للدولة في مدى احترامها لمواطنيها، وفي رؤيتها لدورها بعد الانهيار. أما بقاء الموظف العام صامدًا رغم الفقر والإهمال، فذلك دليلٌ على ولاء الدولة لمواطنيها. أما أن يُترك لمصيره، فهو إعلانٌ واضح بانتهاء عهد الدولة الاجتماعية، ودخول لبنان في زمن الخدمة مقابل الربح.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى